التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ
١
وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ
٤
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
٥
-الانفطار

التحرير والتنوير

الافتتاح بـــ { إذا } افتتاح مشوِّق لما يرد بعدها من متعلقها الذي هو جواب ما في (إذا) من معنى الشرط كما تقدم في أول سورة إذا الشمس كورت، سوى أن الجمل المتعاطفة المضاف إليها هي هنا أقل من اللآتي في سورة التكوير لأن المقام لم يقتض تطويل الإِطناب كما اقتضاه المقام في سورة التكوير وإن كان في كلتيهما مقتض للإِطناب لكنه متفاوت لأن سورة التكوير من أول السور نزولاً كما علمت آنفاً.

وأما سورة الانفطار فبينها وبين سورة التكوير أربع وسبعون سورة تكرر في بعضها إثبات البعث والجزاء والإِنذار وتقرر عند المخاطبين فأغنى عن تطويل الإِطناب والتهويل.

و{ إذا } ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط.

والمعربون يقولون: خافض لشرطه منصوب بجوابه، وهي عبارة حسنة جامعة.

والقول في الجمل التي أضيف إليها { إذا } من كونها جملاً مفتتحة بمسند إليه مخبر عنه بمسند فعلي دون أن يؤتى بالجملة الفعلية ودون تقدير أفعال محذوفة قبل الأسماء، لقصد الاهتمام بالمسند إليه وتقوية الخبر.

وكذلك القول في تكرير كلمة (إذا) بعد حروف العطف كالقول في جمل { { إذا الشمس كورت } [التكوير: 1].

و{ انفطرت }: مطاوع فطر، إذا جعل الشيء مفطوراً، أي مشقوقاً ذا فطور، وتقدم في سورة الملك.

وهذا الانفطار: انفراج يقع فيما يسمى بالسماء وهو ما يشبه القبة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسْمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل، ويعرف سمتها في النهار، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه فإذا اختلّ ذلك وتخللته أجسام أو عناصر غريبة عن أصل نظامه تفككت تلك الطباق ولاح فيها تشقق فكان علامة على انحلال النظام المتعلق بها كله.

والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق أيضاً في سورة الانشقاق وهو حدث يكون قبل يوم البعث وأنه من أشراط الساعة لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب وحركة الأرض وذلك يقتضيه قرنه بانتثار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور.

وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير (11) في قوله: { { وإذا السماء كشطت } فذلك عرض آخر يعرض للسماوات يوم الحشر فهو من قبيل قوله تعالى: { { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلاً } [الفرقان: 25].

والانتثار: مطاوع النثر ضد الجمع وضد الضم، فالنثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق.

وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز كما في قوله تعالى: { { فجعلناه هباء منثوراً } [الفرقان: 23]. فانتثار الكواكب مستعار لتفرق هيئات اجتماعها المعروفة في مواقعها، أو مستعار لخروجها من دوائر أفلاكها وسموتها فتبدو مضطربة في الفضاء بعد أن كانت تلوح كأنها قارّة، فانتثارها تبددها وتفرق مجتمعها، وذلك من آثار اختلال قوة الجاذبية التي أقيم عليها نظام العالم الشمسي.

وتفجير البحار انطلاق مائها من مستواه وفيضانه على ما حولها من الأرضين كما يتفجر ماء العين حين حفرها لِفساد كرة الهواء التي هي ضاغطة على مياه البحار وبذلك التفجير يعمّ الماء على الأرض فيهلك ما عليها ويختل سطحها.

ومعنى: { بعثرت }: انقلبَ باطنها ظاهِرَها، والبعثرة: الانقلاب، يقال: بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض. قال في «الكشاف»: «بعثر مركب من البعث مع راء ضُمت إليه». وقال البيضاوي قيل: إن بعثر مركب من بعث وراء الإِثارة كبسمل اهــــ، ونُقل مثله عن السهيلي. وأن بعثر منحوت من بَعْث وإثارة مثل: بسمل، وحَوْقل، فيكون في بعثر معنى فعلين بَعَثَ وأثَار، أي أخرج وقلب، فكأنه قلب لأجل إخراج ما في المقلوب.

والذي اقتصر عليه أيمة اللغة أن معنى بعثر: قلب بَعض شيء على بعضه.

وبعثرة القبور: حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذكر من بين حالات الأرض لما فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر من جثث كاملة ورفات، فإن كان البعث عن عدم كما مال إليه بعض العلماء أو عن تفريق كما رآه بعض آخر، فإن بعث الأجساد الكاملة يجوز أن يختص بالبعث عن تفريق ويختص بعث الأجساد البالية والرمم بالكون عن عدم.

وجملة: { علمت نفس ما قدمت وأخرت } جوابٌ لما في { إذا } من معنى الشرط، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات { إذا } الأربع. وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت.

وعِلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط بــــ { إذا } إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارناً لحصول شرطه لأنّ الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عِللاً، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير.

صيغة الماضي في قوله: { انفطرت } وما عطف عليه مستعملة في المستقبل تشبيهاً لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي.

وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله: { { علمت نفس ما أحضرت } في سورة التكوير (14).

و{ نفس } مراد به العموم على نحو ما تقدم في: { { علمت نفس ما أحضرت } في سورة التكوير (14).

و{ ما قدمت وأخرت }: هو العمل الذي قدمتْه النفس، أي عملته مقدماً وهو ما عملته في أول العمر، والعملُ الذي أخرته، أي عملته مؤخراً أي في آخر مدة الحياة، أو المراد بالتقديم المبادرة بالعمل، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل.

والمقصود من هذين تعميم التوقيف على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى: { { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } في سورة لا أقسم بيوم القيامة (13).

والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوماً من قبل وبتذكر ما نُسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير. وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا: { { بل تُكَذِّبون بالدين } [الانفطار: 9]، ووعد للمتقين، ومختلط لمن عملوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.