التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ
١٦
ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
١٧
-المطففين

التحرير والتنوير

{ كَلاَّ بَلْ رَّانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ }.

اعتراض بالردع وبيان له، لأن { كلاّ } ردع لقولهم أساطير الأولين، أي أن قولهم باطل. وحرف { بل } للإِبطال تأكيداً لمضمون { كلاّ } وبياناً وكشفاً لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرَهم من الرّيْن.

والرّين: الصدأ الذي يعلو حديدَ السيف والمِرآةِ، ويقال في مصدر الرَّين الرانُ مثل العيب والعَاب، والذيْم والذام.

وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الريْن، فيقال: ران السيف وران الثوب، إذا أصابه الريْن، أي صار ذا رين، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي، فقالوا: ران النعاس على فلان، ورانت الخمر، وكذلك قوله تعالى: { ران على قلوبهم } هو من باب رَان الرينُ على السيف، وليس من باب رانَ السيفُ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون: رِين على قلب فلان وفلان مَرينٌ على قلبه.

والمعنى: غَطَّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهمُ القرآن والبونِ الشاسِع بينه وبين أساطير الأولين.

وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها.

وقرأه عاصم بالوقف على لام (بل) والابتداء بكلمة ران تجنباً للإدغام.

وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام { بل } ليبين أنها لام. قال في «اللسان»: إظهار اللام لغة لأهل الحجاز. قال سيبويه: هما حسنان، وقال الزجاج: الإِدغام أرجح.

والقلوب: العقول ومَحالُّ الإِدراك. وهذا كقوله تعالى: { { ختم اللَّه على قلوبهم } في سورة البقرة (7).

ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماءَ فاشمأزت منه لبرده "بَرِّديهِ تَجديه سَخيناً" أي بَلْ رديه وذلك من المُلَح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخيناً.

و{ ما كانوا يكسبون } ما عملوه سالفاً من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خُلُقاً متأصلاً فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها.

روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: { كَلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

ومجيء { يكسبون } بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي.

وفي ذكر فعل { كانوا } دون أن يقال: ما يكسبون، إشارة إلى أن المراد: ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يَكونوا مناط تكليف أيامئذ. فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلٰهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة.

و{ كلاّ } الثانية تأكيد لـــ { كلا } الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً.

جملة: { إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون } وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.

فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد «الكشاف»:

إذا اعتروا باب ذي عُبِّيَّه رجِبواوالناسُ من بين مَرجوب ومَحْجوب

وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان.

ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار: { { على الأرائك ينظرون } [المطففين: 23] وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى: { { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفَتّح لهم أبواب السماء } [الأعراف: 40]، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل: «عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال: عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران (77): { { ولا يَنْظُرُ إليهم يوم القيامة } }. وأما العذاب فهو ما في قوله: ثم إنهم لصالوا الجحيم }.

وقد عطفت جملته بحرف { ثم } الدالة في عطفها الجُملَ على التراخي الرتبي وهو ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة.

و«صالوا» جمع صال وهو الذي مسه حر النار، وتقدم في آخر سورة الانفطار. والمعنى: أنهم سيصلون عذاب جهنم.

وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة: { ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } فعطف الجملة بحرف { ثم } اقتضى تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها، أي بُعد درجته في الغرض المسوق له الكلام.

واقتضى اسم الإِشارة أنهم صاروا إلى العذاب، والإِخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهم يكذّبونه، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد، وبذلك كان مضمون الجملة أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة المعطوفة هي عليها.

أو يكون قوله: { ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى: { { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } [الزخرف: 77، 78] فطوي سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتماداً على قرينة عطف جملة هذا المقال بــــ { ثم } الدالة على التراخي.

وبني فعل { يقال } للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول.

وجيء باسم الموصول ليُذَكَّروا تكذيبهم به في الدنيا تنديماً لهم وتحزيناً.

وتقديم { به } على { تكذبون } للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل { تكذبون } إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدّى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذَّب فيعدّى بالباء. ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف، أي كذب بسببه من أخبره به، ولذلك قدره بعض المفسرين: هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا.