هذا تفصيل الإِجمال الذي في قوله:
{ { إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [الانشقاق: 6] أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله، فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دلّ عليه قوله: { إنه ظن أن لن يحور }، وبين منتهاهما مراتب. وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين. والكِتاب: صحيفة الأعمال، وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعاراً للسعادة لِما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سَموا البركة والسعادة يُمناً، ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان، وتقدم عند قوله تعالى:
{ { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } في سورة [الصافات: 28]، وقوله: { { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } [الواقعة: 27]. وقوله: { { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } في سورة [الواقعة: 41]، وقوله: { { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } في سورة [الواقعة:8، 9]. والباء في قوله: بيمينه } للملابسة أو المصاحبة، أو هي بمعنى (في)، وهي متعلقة بــــ { أوتي }.
وحرف (سوف) أصله لحصول الفعل في المستقبل، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى:
{ { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة [يوسف: 98]، وهو هنا مفيد للتحقق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرارِ وهو ينقلب إلى أهله مسروراً وهو المقصود من هذا الوعد. وقد تقدم عند قوله تعالى: { { فسوف نصليه ناراً } في سورة [النساء: 30]. والحساب اليسير: هو عَرْض أعماله عليه دون مناقشة فلا يَطول زمنه فيعجَّلُ به إلى الجنة، وذلك إذا كانت أعماله صالحة، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة.
و{ من أوتي كتابه وراء ظهره } هو الكافر. والمعنى: إنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة بـــ { من أوتي كتابه بيمينه } وذلك أيضاً في سورة الحاقة قوله: { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه }، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيراً له ويناول له من وراء ظهره إظهاراً للغضب عليه بحيث لا ينظر مُناوِلُه كتابَه إلى وجهه.
وظرف { وراء ظهره } في موضع الحال من { كتابه }.
و{ ينقلب إلى أهله } أي يرجع. والانقلاب: الرجوع إلى المكان الذي جيء منه، وقد تقدم قريباً في سورة المطففين.
والأهل: العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة.
وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسَب حساباً يسيراً في المسرّة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالماً رابحاً لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة، فذلك وجه الشبه بين الهيْأتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية.
وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب، ولأنه قد لا يكون له أهل. وهو أيضاً كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان.
والمراد بالدعاء في قوله: { يدعو ثبوراً } النداء، أي ينادي الثبور بأن يقول: يا ثبوري، أو يا ثبورا، كما يقال: يا ويلي ويا ويلتنا.
والثبور: الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس.
والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء.
{ ويصلَّى } قرأه نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاهُ إذا أحرقَه. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف { ويَصْلَى } بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صَلِيَ اللازم إذا مسته النار كقوله:
{ { يصْلَوْنَها يوم الدين } [الانفطار: 15]. وانتصب { سعيراً } على نزع الخافض بتقدير يُصلَّى بسعير، وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوباً بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية، وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى:
{ { وسيصلون سعيراً } في سورة [النساء: 10] فانظره. وقوله: { إنه كان في أهله مسروراً } مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله:
{ { أولي النعمة } [المزمل: 11] وقوله: { { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [المطففين: 31] فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دَعوا بالثبور. وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان: «إنَّك عَلَيه لجريء» (أي على النبي صلى الله عليه وسلم). وهذه الجملة معترضة.
وموقع جملة: { إنه ظن أن لن يحور } موقع التعليل لمضمون جملة: { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } إلى آخرها.
وحرف (إنّ) فيها مُغْنٍ عن فاء التعليل، فالمعنى: يصلى سعيراً لأنه ظن أن لن يحور، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، أي لأنه يُكَذِّبُ بالبعث، يقال: حار يحور، إذا رجع إلى المكان الذي كان فيه، ثم أطلق على الرجوع إلى حالة كان فيها بعدَ أن فارقها، وهو المراد هنا وهو من المجاز الشائع مثل إطلاق الرجوع عليه في قوله:
{ { ثم إلينا مرجعكم } [يونس: 23] وقوله: { { إنه على رجعه لقادر } [الطارق: 8] وسُمي يومُ البعث يومَ المعاد. وجيء بحرف { لن } الدال على تأكيد النفي وتأييده لحكاية جزمهم وقطعهم بنفيه.
وحرف { بلى } يجاب به الكلام المنفي لإبطال نفيه وأكثر وقوعه بعد الاستفهام عن النفي نحو:
{ { ألسْتُ بربكم قالوا بلى } [الأعراف: 172] ويقع بعد غير الاستفهام أيضاً نحو قوله تعالى: { { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتُبعَثُنّ } [التغابن: 7]. وموقع { بلى } الاستئناف كأحرف الجواب.
وجملة: { إنّ ربه كان به بصيراً } مبينة للإِبطال الذي أفاده حرف { بلى } على وجه الإجمال يعني أن ظنه باطل لأن ربه أنبأه بأنه يبعث.
والمعنى: إن ربه عليم بمآله. وتأكيد ذلك بحرف { إنَّ } لرده إنكاره البعث الذي أخبر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فآل المعنى الحاصل من حرف الإِبطال ومن حرف التأكيد إلى معنى: أن ربه بصير به وأما هو فغير بصير بحاله كقوله:
{ { واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون } [البقرة: 216]. وتعدية { بصيراً } بالباء لأنه من بَصُر القاصر بضم الصاد به إذا رآه رؤية محققة، فالباء فيه معناها الملابسة أو الإِلصاق.
وفيه إشارة إلى حكمة البعث للجزاء لأن رب الناس عليم بأحوالهم فمنهم المصلح ومنهم المفسد والكل متفاوتون في ذلك فليس من الحكمة أن يذهب المفسد بفساده وما ألحَقَهُ بالموجودات من مضار وأن يهمل صلاح المصلح، فجَعَل الله الحياة الأبدية وجعلها للجزاء على ما قدّم صاحبها في حياته الأولى.
وأطلق البصر هنا على العلم التام بالشيء.
وعلق وصف (بصير) بضمير الإنسان الذي ظن أن لن يحور، والمراد: العِلم بأحواله لا بذاته.
وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بهذا المجرور، أي بصير به لا محالة مع مراعاة الفواصل.