التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ
١٦
وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ
١٧
وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ
١٨
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
١٩
-الانشقاق

التحرير والتنوير

الفاء لتفريع القسم وجوابه، على التفصيل الذي في قوله: { { فأما من أوتى كتابه بيمينه } [الانشقاق: 7] إلى هنا: فإنه اقتضى أن ثمة حساباً وجزاء بخير وشر فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضاً جمعاً إجمالياً لما يعترض في ذلك من الأهوال.

وتقدم أن: «لا أقسم» يراد منه أُقسم، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال والمخلوقات عند قوله: { { فلا أقسم بالخنس } في سورة التكوير (15).

ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسَم عليه لأنّ الشفق والليل والقمر تخالط أحوالاً بين الظلمة وظهور النور معها، أو في خلالها، وذلك مناسب لما في قوله: { لتركبن طبقاً عن طبق } من تفاوت الأحوال التي يختبط فيها الناس يومَ القيامة أو في حياتهم الدنيا، أو من ظهور أحوال خير من خلال أحوال شَرّ أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي.

ولعل ذِكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مِثْل حالة الموت، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين.

والشفق: اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس أثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعضُ جرم الأرض، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقاً.

و{ ما وَسَق } (مَا) فيه مصدرية، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب.

والوسْق: جمع الأشياء بعضها إلى بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشراً في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى: { { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } [القصص: 73]، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقْسم به قسماً أدمجت فيه منّة. وقيل: ما وسقه الليل: النجوم، لأنها تظهر في الليل، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسِق أشياء متفرقة. وهذا أنسب بعطف القمر عليه.

واتساق القمر: اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوَسْق بمعنى الجمع كما تقدم آنفاً وذلك في ليلة البدر، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه.

وأصل فعل اتّسق: اوِتَسَق قلبت الواو تاء فوقية طلباً لإِدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد.

وجملة: { لتركبن طبقاً عن طبق } نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها.

فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني.

فأما فعل { لتركبن } فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ، منها الغلَب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة.

وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال: رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ.

وأما كلمة { طَبَق } فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام «الأساس» و«الصحاح» أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس، وظاهر «الكشاف» أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال، يقال: طابَق النعل النعل.

وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق. وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة.

ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل: «وافَقَ شنّ طبَقه» أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه. ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه.

ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء.

ويطلق اسمَ جمعٍ لطبقة: وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه. وهذا من المجاز يقال: أتانا طَبق من الناس، أي جماعة.

ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى { عن } من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفةِ كلمة (بعد) وهو معنى مجازي.

وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية: { { يا أيها الإنسان إنك كادح } [الانشقاق: 6] الآيات. ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل. فتتركب من هذه المحامل معانٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية.

فقيل المعنى: لتركُبن حالاً بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين «طبق» في الموضعين للتعظيم والتهويل و{ عن } بمعنى (بعد) والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول، كقوله تعالى: { { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [النحل: 88]. وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها.

وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء، وحشر، وسعادة أو شقاوة، ونعيم أو جحيم، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث مُنْكَر وفي إسناده ضعفاء، أو حالاً بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال.

وقيل: { لتركبن } منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيهما للتنويع.

وقيل: من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون { عن } على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم.

ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى: { { إلى ربك يومئذ المساق } [القيامة: 30] وهذا تهديد لمنكريه، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة، أي لتَتَّبِعُنَّ. وحذف مفعول: «تركبن» بتقدير: ليَتبعن بعضُكم بعضاً، أي في تصميمكم على إنكار البعث. ودليل المحذوف هو قوله: { طبقاً عن طبق } ويَكون { طبقاً } مفعولاً به وانتصاب { طبقاً } إما على الحال من ضمير { تركبُنّ }. وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية.

وموقع { عن طبق } موقع النعت لــــ { طبقاً }.

ومعنى { عن } إما المجاوزة، وإما مرادفة معنى (بعد) وهو مجاز ناشىء عن معنى المجاوزة، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم: «ورثوا المجد كابراً عن كابر» غيَّر حرف (عن) إلى كلمة (بعد) فقال:

لآلِ الجُلاَحِ كَابِراً بعدَ كابِر

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر { لتركَبُن } بضم الموحدة على خطاب الناس. وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى: { { يا أيها الإنسان إنك كادح } [الانشقاق: 6]. وحُمل أيضاً على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل. وقيل: خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية: قيل: هي عِدة بالنَّصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك (أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين) فيكون بشارة للمسلمين، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة: { { إنه ظن أن لن يحور } [الانشقاق: 14] وجملة: { { فما لهم لا يؤمنون } [الانشقاق: 20]. وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين.