التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ
١
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
٢
وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ
٣
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ
٤
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ
٦
-الانشقاق

التحرير والتنوير

قدم الظرف { إذا السماء انشقت } على عامله وهو { كادح } للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار: يا أيها الإِنسان إنك كادح إذا السماء انشقت الخ.

ولكن لما تعلق { إذا } بجزء من جملة { إنك كادح } وكانت { إذا } ظرفاً متضمناً معنى الشرط صار: يا أيها الإنسان إنك كادح جواباً لشرط { إذا } ولذلك يقولون { إذا } ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوباً بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار.

و{ إذا } ظرف للزمان المستقبل، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه { إذا } مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضيّ للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل { إذا } القطع بوقوع الشرط.

وانشقت مطاوع شَقَّها، أي حين يشقُّ السماءَ شَاقّ فتنشق، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده: { وأذنت لربها }.

والانشقاق هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله: { { إذا السماء انفطرت } [الانفطار: 1] وهو انشقاق يلوح للناس في جوّ السماء من جرَّاء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم.

وقدّم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: { إذا السماء انشقت } دون أن يقال: إذا انشقت السماء لإفادة تقوّي الحكم وهو التعليق الشرطي، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع، زيادة على ما يقتضيه { إذا } في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف (إنْ).

{ وأذِنَت }، أي استمعت، وفِعل أذِن مشتق من اسم جامد وهو اسم الأُذْن بضم الهمزة آلة السمع في الإِنسان يقال أَذِن له كما يقال: استمع له، أي أصغى إليه أُذنَهُ.

وهو هنا مجاز مرسل في التأثر لأمر الله التكويني بأن تنشق. وليس هو باستعارة تبعية ولا تمثيلية.

والتعبير بـــ «ربها» دون غير ذلك من أسماء الله وطرق تعريفه، لِمَا يؤذن به وصف الرب من الملك والتدبير.

وجملة: { وحُقت } معترضة بين المعطوفة والمعطوف عليه.

والمعنى: وهي محقوقة بأن تَأْذِن لربّها لأنها لا تخرج عن سلطان قدرته وإن عظم سمكها واشتدّ خَلقها وطال زمان رتقها فما ذلك كله إلا من تقدير الله لها، فهو الذي إذا شاء أزالها.

فمتعلِّق { حُقّت } محذوف دل عليه فعل: { وأذنت لربها }، أي وحقت بذلك الانقياد والتأثر يقال: حُقَّ فلان بكذا، أي توجه عليه حقّ. ولما كان فاعل توجيه الحَق غيرَ واضح تعيينُه غالباً، كان فهل حُقّ بكذا، مبنياً للمجهول في الاستعمال، ومرفوعه بمعنى اسم المفعول، فيقال: حقيق عليه كذا، كقوله تعالى: { { حقيق على أن لا أقول على اللَّه إلا الحق } [الأعراف: 105] وهو محقوق بكذا، قال الأعشى:

لمحقُوقه أن تستجيبي لصوتهوأن تعلمي أن المُعان مُوفقُ

والقول في جملة: { وإذا الأرض مُدّت } مثل القول في جملة { إذا السماء انشقت } في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي.

ومَدّ الأرض: بسطها، وظاهر هذا أنها يُزال ما عليها من جبال كما يُمد الأديم فتزول انثناءاته كما قال تعالى: { { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرُها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً } [طه: 105 ـــ 107].

ومن معاني المدّ أن يكون ناشئاً عن اتساع مساحة ظاهرها بتشققها بالزلازل وبروز أجزاء من باطنها إلى سطحها.

ومن معاني المدّ أن يزال تكويرها بتمدد جسمها حتى تصير إلى الاستطالة بعد التكوير. وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغير أحوال الجاذبية وما يحيط بالأرض من كرة الهواء فيعقب ذلك زوالُ هذا العالم.

وقوله: { وألقت ما فيها } صالح للحمل على ما يناسب هذه الاحتمالات في مدّ الأرض ومحتمل لأن تنقذف من باطن الأرض أجزاء أخرى يكون لانقذافها أثر في إتلاف الموجودات مثلُ البراكين واندفاعُ الصخور العظيمة وانفجار العيون إلى ظاهر الأرض فيكون طوفان.

{ وتخلت } أي أخرجت ما في باطنها فلما يبق منه شيء لأن فعل تخلّى يدل على قوة الخلوّ عن شيء لما في مادة التفعل من الدلالة على تكلف الفعل كما يقال تكرم فلان إذا بالغ في الإِكرام.

والمعنى: إنه لم يبق مما في باطن الأرض شيء كما قال تعالى: { { وأخرجت الأرض أثقالها } [الزلزلة: 2].

وتقدم الكلام على نظير قوله: { وأذنت لربها وحقت } آنفاً.

وجملة: { يا أيها الإنسان إنك كادح } إلى آخره جواب { إذا } باعتبار ما فُرع عليه من قوله: { فملاقيه } ونسب هذا إلى المبرد، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه.

فالمعنى: إذا السماء انشقت وإذا الأرض مُدّت لاقيتَ ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله: { إنك كادح } إدماجاً بمنزلة الاعتراض أمام المقصود.

وجوز المبرد أن يكون جواب { إذا } محذوفاً دل عليه قوله: { فملاقيه } والتقدير: إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيتَ أيها الإنسان ربك.

وجوز الفرّاء أن يكون جواب { إذا } قوله { وأذنت لربها } وإن الواو زائدة في الجواب. ورده ابن الأنباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت { إذا } بعد (حتى) كقوله تعالى: { { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [الزمر: 73] أو بعد (لما) كقوله تعالى: { { فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم } [الصافات: 103، 104] الآية.

وقيل: الجواب: { { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [الانشقاق: 7]، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس.

والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله: { الإنسان } لتعريف الجنس وهو للاستغراق كما دل عليه التفصيل في قوله: { { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [الانشقاق: 7] إلى قوله: { { كان به بصيراً } [الانشقاق: 15].

والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث. فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإِنذار، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير. وقيل: أريد إنسان معين فقيل: هو الأسود بن عبد الأسد (بالسين المهملة في «الاستيعاب» و«الإِصابة» ووقع في «الكشاف» بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في «جامع الأصول» بالمهملة)، وقيل: أُبيّ بن خلف، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء.

والكدحُ: يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيَّها الحقيقة، وقد أهمل هذه المادة في «الأساس» فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي. وظاهر كلام الراغب أن حقيقته: إتعاب النفس في العمل والكد. وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف (إلى) تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله، فيجوز أن يضمن { كادح } معنى ساعٍ لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملاً لغد وهكذا، وذلك يتقضَّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جُعِل كدحُه إلى ربه. فكأنه قيل: إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف (إنَّ)، ويجوز أن يضمن { كادح } معنى ماش فيكون المجرور ظرفاً لغواً.

و{ كدحاً } منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد { كادح } المضمن معنى ساع إلى ربك، أي ساع إليه لا محالة ولا مفر.

وضمير النصب في «ملاقيه» عائد إلى الرب، أي فملاق ربك، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن.