التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٠
وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ
٢١
-الانشقاق

التحرير والتنوير

يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال مَن أوتي كتابه وراء ظهره، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد بــــ (من) الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول (مَن) وهو الجماعة. والمعنى: فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا.

ويجوز أن يكون مفرعاً على قوله: { { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [الانشقاق: 6]، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه. وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإِنكار والتعجيب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإِنسان في قوله: { { يا أيها الإنسان إنك كادح } لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات.

ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله: { { لتركبُنَّ طبقاً عن طبق } [الانشقاق: 19] فيكون مخصوصاً بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ. والضمير أيضاً التفات.

ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القَسَم بها أنها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالإلٰهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية. والالتفات هو هو.

وتركيب «ما لهم لا يؤمنون» يشتمل على (مَا) الاستفهامية مُخبر عنها بالجار والمجرور. والجملةُ بعد { لهم } حال من (ما) الاستفهامية.

وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكَر أن يُسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإِنكار مجاز بعلاقة اللزوم، واللام للاختصاص.

وجملة: { لا يؤمنون } في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسمٌ لَكان منصوباً كما في قوله تعالى: { { فما لكم في المنافقين فئتين } [النساء: 88] والحال هي مناط التعجيب، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصّيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى: { { قالوا وما لنا ألاَّ نُقاتل في سبيل الله } في سورة البقرة (246).

ومتعلق { يؤمنون } محذوف يدل عليه السّياق، أي بالبعث والجزاء.

ويجوز تنزيل فعل { يؤمنون } منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإِيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإِلٰهية فكيف يستمرون على الإِشراك به.

والمعنى: التعجيب والإِنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دُعوا إليه وأُنذروا به.

و{ لا يسجدون } عطف على { لا يؤمنون } { وإذا قرىء عليهم القرآن } ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن.

وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءةَ تبليغ ودعوة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفراداً وقد قال له عبد الله بن أبيّ بن سلول: «لا تَغْشَنا به في مجالسنا» وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس.

والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى: { { والنجم والشجر يسجدان } [الرحمٰن: 6] وقوله: { { يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سُجَّداً للَّه } [النحل: 48]، أي إذا قرىء عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته، ولا يؤمنون بحقيته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله: { { بل الذين كفروا يكذبون } [الانشقاق: 22].

وليس في هذه الآية ما يقتضي أنَّ عند هذه الآية سجدةً من سجود القرآن والأصحّ من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافاً لابن وَهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة. وقال الشافعي: هي سُنة. وقال أبو حنيفة: واجبة. والأرجح أن عزائم السجود المسنونة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصّحابة. وإن ثلاث آيات غير الإِحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي: إمّا قد تُرك سجودها، وإمّا لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا: { وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون }. وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك ا هــــ.

قلت: وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإِحدى عشرة وقد قال مالك في «الموطأ» بعد أن رَوى حديث أبي هريرة: "الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء" وقال أبو حنيفة والشافعي: سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق. وقال أحمد: هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحجّ ففيها سجدتان عنده.