التفاسير

< >
عرض

فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
٥
خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ
٦
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ
٧
-الطارق

التحرير والتنوير

الفاء لتفريع الأمر بالنظر في الخلقة الأولى، على ما أريد من قوله: { { إن كل نفس لما عليها حافظ } [الطارق: 4] من لوازم معناه، وهو إثبات البعث الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفاً، فالتقدير: فإن رأيتم البعثَ محالاً فلينظر الإِنسان مِمّ خُلق ليعلَمَ أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول.

فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة.

والنظر: نظر العقل، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال فالمأمور به نظر المُنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع على: { { إن كل نفس لما عليها حافظ } [الطارق: 4].

و(مِنْ) من قوله: { مم خُلق } ابتدائية متعلقة بــــ { خُلق }. والمعنى: فليتفكر الإِنسان في جواب: مَا شيء خلق منه؟ فقدّم المتعلِّق على عامله تبعاً لتقديم ما اتصلت به من (من) اسم الاستفهام.

و(ما) استفهامية عَلّقت فعل النَّظر العقلي عن العمل.

والاستفهام مستعمل في الإِيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالى: { { من أي شيء خلقه } [عبس: 18] فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب.

وحذف ألف (ما) الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة.

ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قوله: { { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } [النبأ: 1، 2].

و{ الإِنسان } مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفاً من مقتضى التفريع في قوله: { فلينظر } إلخ.

ومعنى { دافق } خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل.

وصيغة { دافق } اسم فاعل من دفق القاصر، وهو قول فريق من اللغويين. وقال الجمهور: لا يستعمل دفَق قاصراً. وجعلوا دافقاً بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر.

وعن الفراء: أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً، إذا كان في طريقة النعت. وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم: لاَبن وتَامِر، ففُسر دافق: بذي دَفْق.

والأحسن أن يكون اسم فاعل ويَكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جَبَر بمعنى انْجبر في قوله:

قد جبر الدينَ الإِلٰه فجبر

وأنه سماعي.

وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً.

ووُصف أنه يخرج من { بين الصلب والترائب } لأن الناس لا يتفطنون لذلك.

والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب.

و{ الصلب }: العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات.

و{ الترائب }: جمع تريبة، ويقال: تَريب. ومحرّر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقُوَتَيْن والثَّديين ووسموه بأنه موضع القلادة من المرأة.

والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.

وقوله: { يخرج من بين الصلب والترائب } الضمير عائد إلى { ماء دافق } وهو المتبادر فتكون جملة { يخرج } حالاً من { ماء دافق } أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه. وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصل تكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورِئَتَيْن.

فجعل الإِنسان مخلوقاً من ماء الرجل لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل فإذا اختلط ماء الرجل بما يُسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بُوَيضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين ويُطرح ما عداه.

وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإِنسان من ماء الرجل وماءِ المرأة بذكر الترائب لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة.

ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذَنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة، ومقرها الأنثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة.

ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حُويصلة من حويصلات يشتمل عليها مَبيضان للمرأة وهما بمنزلة الأنثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مَبيض يشتمل على عدد من الحُويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين. وخروج البيضة من الحُويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرتْ فخرجت البَيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النموَّ وخروجُها من الحويصلة في وقت حيض المرأة فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها.

وأصل مادة كِلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب ثم ينتهي إلى عرق يسمى الحَبْل المَنَوي مؤلف من شرايين وأوْرِدَةٍ وأعصابٍ وينتهي إلى الأنثيين وهما الغدتان اللتان تُفرزانِ المني فيتكون هنالك بكيفية دُهنية وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنْثيان مادةً دهنية شحمية وذلك عند دغدغة ولَذع القضيب المتصل بالأنثيين فيندفق في رحم المرأة.

وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب لأن فيه موضع الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحاملُ للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فَوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطُّهر. والرحم يأتيها عصب من الدماغ.

وهذا من الإِعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علمٌ به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة، فقال: تغتسل إذا أبصرت الماء فقيل له: أترى المرأة ذلك فقال: وهل يكون الشبه إلا من قِبَل ذلك إذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءَها أشبه أعمامه" .