التفاسير

< >
عرض

سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ
٦
إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ
٧
-الأعلى

التحرير والتنوير

قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله: { { سبح اسم ربك الأعلى } [الأعلى: 1] بشارة إجمالية للنبيء صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشىء في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرَّع على قوله: { سنقرئك } من قوله: { فلا تنسى }.

وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل، وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له: { { لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } [القيامة: 16، 17]، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه: { { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [القيامة: 18]. يقول: إذا أُنزل عليك فاستمع، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها { { لا تحرك به لسانك } نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله: { سنقرئك فلا تنسى } وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه.

وإنما ابتدىء بقوله: { سنقرئك } تمهيداً للمقصود الذي هو: { فلا تنسى } وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّتِه فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.

والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله: { سنقرئك فلا تنسى } إقراءً، فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد.

والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر.

وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه.

فقوله: { فلا تنسى } خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.

والنسيان: عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً.

والاستثناء في قوله: { إلا ما شاء اللَّه } مفرّع من فعل { تنسى }، و(ما) موصولة هي المستثنى. والتقدير: إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جرياً على غالب استعماله في كلام العرب، وانظر ما تقدم في قوله: { { ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم وأبصارهم } في سورة البقرة (20).

والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء الله أن ينساه. وذلك نوعان:

أحدهما: وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءَته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال: «كان فيما أنزل الشيخُ والشيخه إذا زنيا فارجموهما» قال عمر: لقد قرأنَاها، وأنه كان فيما أنزل: «لا تَرغبوا عن ءابائكم فإنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن ءابائكم». وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: { أو ننسها } في قراءة من قرأ: { { نُنْسِها } في سورة البقرة (106).

النوع الثاني: ما يعرض نسيانه للنبيء صلى الله عليه وسلم نسياناً موقتاً كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به. ففي «صحيح البخاري» عن عائشة قالت: «سمع النبيءُ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال: يرحمه الله لقد أذكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتهن أو كنت أنسيتُها من سورة كذا وكذا، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبَيّ بن كعب أُنسِخَتْ؟ فقال: «نسيتُها».

وليس قوله: { فلا تنسى } من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أمَّا إنه ليست (لا) فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره.

وجملة: { إنه يعلم الجهر وما يخفى } معترضة وهي تعليل لجملة: { فلا تنسى } { إلا ما شاء الله } فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض.

ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به.