التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١١
-التوبة

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة، ليكون توطئة وتمهيداً لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقاً بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قوله: { { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [التوبة: 38] الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار.

وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى: { { مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [التوبة: 38] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة.

وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله: { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن }، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية.

والاشتراء: مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله: { وعداً عليه حقاً } بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر.

ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في { بأن لهم الجنة } لمشابهة هذا الوعد الثمنَ. وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها.

والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة. وهو المناسب لقوله بعد: { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به }.

ويكون معنى قوله: { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل } ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة. وهو ما أشار إليه قوله تعالى: { { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [الفتح: 29] إلى قوله { { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } [الفتح: 29] إلى قوله { { ليغيظ بهم الكفار } [الفتح: 29].

ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل ـــ عليهم الصلاة والسلام ـــ وهو أنسب لقوله: { في التوراة والإنجيل }، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب. فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل { يقاتلون } مستعملاً في حقيقته ومجازه.

واللام في { لهم الجنة } للملك والاستحْقاق. والمجرور مصدر، والتقدير: بتحقيق تملكهم الجنة، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلاً كان هذا البيع من جنس السلم.

وجملة: { يقاتلون في سبيل الله } مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول: كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم؟ فكان جوابه { يقاتلون في سبيل الله } الخ.

قال الطيبي: «فقوله { يقاتلون } بيان، لأن مكان التسليم هو المعركة، لأن هذا البيع سَلَم، ومن ثَم قيل { بأن لهم الجنة } ولم يقل بالجنة. وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله: { وعداً عليه حقاً }، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة. ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن» اهـــ. وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلاً عكس ما فسرنا به آنفاً.

وقوله: { فيَقتُلُون ويُقتلون } تفريع على { يُقاتلون }، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين. وقرأ الجمهور { فيَقتلون } بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس. وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة.

و{ وَعدا } منصوب على المفعولية المطلقة من { اشترى }، لأنه بمعنى وعد إذ العِوض مؤجل. و{ حقاً } صفة { وعْداً }. و{ عليه } ظرف لغو متعلق بـــ { حقاً }، قُدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف (على) من معنى الوجوب.

وقوله: { في التوراة } حال من { وعداً }. والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب، أي مكتوباً في التوارة والإنجيل والقرآن.

وجملة: { ومن أوفى بعهده من الله } في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله: { وعداً عليه حقاً }، أي وعداً حقاً عليه ولا أحد أوفى بعهده منه، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملاً للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال: ومن أوفى بعهده من الله إنكاراً عليه.

و{ أوفى } اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله.

و{ مِن } تفضيلية، وهي للابتداء عند سيبويه، أي للابتداء المجازي. وذُكر اسم الجلالة عوضاً عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال. والعهد: الوعد بحلف والوعد الموكد، والبيعة عهد، والوصية عهد.

وتفرع على كون الوعد حقاً على الله، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد، أنْ يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة. وأضيف البيع إلى ضميرهم إظهاراً لاغتباطهم به.

ووصفه بالموصول وصلته { الذي بايعتم به } تأكيداً لمعنى { بيعكم }، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف.

وجملة: { وذلك هو الفوز العظيم } تذييل جامع، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيْه. وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف بــ{ العظيم } المفيد للأهمية.