التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٩
-التوبة

التحرير والتنوير

هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفَّاهم الله حقهم من الثناء عليهم، وهم أضداد الفريقين الآخَرين المذكورين في قوله: { { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً } [التوبة: 97] ـــ وقوله ـــ { { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مَغرماً } [التوبة: 97]. قيل: هم بنو مُقَرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى: { { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } [التوبة: 92] الآية كما تقدم. ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزَني ـــ هو ابن مغفل ـــ. والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك. وتقدم قريباً معنى { يتخذ }.

و{ قربات } ـــ بضم القاف وضم الراء ـــ: جمع قربة بسكون الراء. وهي تطلق بمعنى المصدر، أي القرب وهو المراد هنا، أي يتخذون ما ينفقون تقرباً عند الله. وجَمْع قربات باعتبار تعدد الإنفاق، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب. قال تعالى: { { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب } [الإسراء: 57]. فــ { قربات } هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة، فلذلك وصفت بــ { عند } الدالة على مكان الدنو. و(عند) مجاز في التشريف والعناية، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله. قال تعالى: { { إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [القمر: 54، 55].

و{ وصلوات الرسول } دعواته. وأصل الصلاة الدعاء. وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالاً لما أمره الله بقوله: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } [التوبة: 103]. وجاء في حديث ابن أبي أوفَى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم صل على آل أبي أوْفَى" .

ويجوز عطف { صلوات الرسول } على اسم الجلالة معمولاً لـــ { عند }، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول، أي يجعلونه تقرباً كائناً في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيهاً للتسبب في الشيء بالاقتراب منه، أي يجعلون الإنفاق سبباً لدعاء الرسول لهم. فظرف (عند) مستعمل في معنيين مجازيين. ويجوز أن يكون { وصلوات الرسول } عطفاً على { قربات عند الله }، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول. أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى: { { وصل عليهم } [التوبة: 103].

وجملة: { ألا إنها قربة لهم } مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه. وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها، والضمير الواقع اسم (إنَّ) عائد إلى ما (ينفق) باعتبار النفقات. واللام للاختصاص، أي هي قربة لهم، أي عند الله وعند صلوات الرسول. وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه. وتنكير { قربة } لعدم الداعي إلى التعريف، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم.

وجملة: { سيدخلهم الله في رحمته } واقعة موقع البيان لجملة { إنها قربة لهم }، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه، وذلك من الرحمة. والقربة عند صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته. والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته. وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة، إذ كثيراً ما يقال: دخل الجنة. قال تعالى: { { وادخلي جنتي } [الفجر: 30].

وجملة: { إن الله غفور رحيم } تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم. وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر، أي غفور لما مضى من كفرهم، رحيم بهم يفيض النعم عليهم.

وقرأ الجمهور { قرْبة } بسكون الراء، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف.