التفاسير

< >
عرض

فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ
١١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ
١٢
فَكُّ رَقَبَةٍ
١٣
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
١٤
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ
١٥
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ
١٦
ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ
١٧
-البلد

التحرير والتنوير

يجوز أن يكون { فلا اقتحم العقبة } تفريع إدماج بمناسبة قوله: { { وهديناه النجدين } [البلد: 10] أي هديناه الطريقين فلمْ يسلك النجْد الموصِّل إلى الخير.

ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة { { يقول أهلكت مالاً لُبَداً } [البلد: 6] وما بينهما اعتراضاً، وتكون «لا اقتحم العقبة» استفهاماً حذف منه أداته. وهو استفهام إنكار، والمعنى: أنه يدعي إهلاك مَال كثيرٍ في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفَلا أهلكه في القُرَب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإِنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافاً لما يدعيه من إنفاقٍ.

وعلى هذا الوجه لا يعرِض الإِشكال بعدم تكرُّر (لا) فإن شأن (لا) النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلاّ إذا تكررت معها مثلُها معطوفةٌ عليها نحو قوله: { { فلاَ صَدَّق ولا صلَّى } [القيامة: 31] أو كانت (لا) معطوفة على نفي نحو: ما خرجتُ ولا ركبتُ. فهو في حكم تكرير (لا). وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو { اقتَحَم العقبة } يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله: { فكُّ رقبة أو إطعام } فكأنه قال: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً. ويجوز أن يكون عدم تكرير (لا) هنا استغناء بقوله: { ثم كان من الذين آمنوا } فكأنه قيل: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كافٍ عن تكرير (لا) كالاستثناء في قول الحريري في «المقامة الثلاثين»: «لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب» الخ وأُطلق { العقبةُ } على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه. ولكل نجد عقبة ينتهي بها. وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة.

والاقتحام: الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال: اقتحم الصَفَّ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى: { { وما يُلَقَّاها إلا الذين صبروا } [فصلت: 35].

والاقتحام: ترشيح لاستعارة العقبة لِطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال:

والمورد العذب كثير الزحام

وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل ولو عزم وصَبر لاقْتحم العقبة. وقد تتابعت الاستعارات الثلاث: النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبُني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس.

والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإِدراك والنطق.

وقوله: { وما أدراك ما العقبة } حال من العقبة في قوله: { فلا اقتحم العقبة } للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم. وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة.

و{ ما } الأولى استفهام. و{ ما } الثانية مثلها. والتقدير: أيُّ شيء أعلمك ما هي العقبة، أي أعْلَمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمراً عزيزاً يحتاج إلى من يُعلمك به.

والخطاب في { ما أدراك } لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل.

وفِعل { أدراك } معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة.

وقرأ نافع وابنُ عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخَلف، { فك رقبة } برفع { فكُّ } وإضافتِه إلى { رقبة } ورفعِ { إطعام } عطفاً على { فكّ }.

وجملة: { فك رقبة } بيان للعقبة والتقدير: هي فكّ رقبة، فحذف المسند إليه حذفاً لمتابعة الاستعمال. وتبيين العقبة بأنها: { فك رقبة أو إطعام } مبني على استعارة العقبة للأعمال الصالحة الشاقة على النفس. وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس، فلا وجه لتقدير من قدَّر مضافاً فقال: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة.

وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو والكسائي { فَكَّ } بفتح الكاف على صيغة فعل المضي، وبنصب { رقبةً } على المفعول لــــ { فكَّ } أو «أطعم» بدون ألف بعد عين { إطعام } على أنه فعل مضي عطفاً على { فَكَّ }، فتكون جملة: { فكَّ رقبةً } بياناً لجملة { فلا اقتحم العقبة } وما بينهما اعتراضاً، أو تكون بدلاً من جملة { اقتحم العقبة } أي فلا اقتحم العقبة ولا فكَّ رقبةً أو أطعم. وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفاً.

والفك: أخذ الشيء من يد من احتاز به.

والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعينٍ ووجهٍ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء. هو رقبته لأنه في الغالب يوثَق من رقبته.

وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسْرٍ أو مِلْك، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع.

وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإِسلامي وهو تشوُّف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».

والمسغبة: الجوع وهي مصدر على وزن المَفْعَلَة مثل المَحْمَدة والمَرْحَمَة مِن سَغِبَ كفَرِح سَغَباً إذا جاع.

والمراد بــــ { يوم ذي مسغبة } زمانٌ لا النهار المعروف.

وإضافة { ذي } إلى { مسغبة } تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة، أي يوم مجاعة، وذلك زمن البَرد وزمنُ القَحط.

ووجه تخصيص اليوم ذي المسغبة بالإِطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتدادِ زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات. فالإِطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة.

وانتصب { يتيماً } على المفعول به لــــ { إطعام } الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمالُ المصدر غيرِ المضاف ولا المعرّفِ باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثرَ، ومنع الكوفيون إعمالَ المصدر غير المضاف. ومَا ورد بعدَه مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم «يطعم يتيماً».

واليتيم: الشخص الذي ليس له أب، وهو دون البلوغ. ووجه تخصيصه بالإِطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه. فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه { ذا مقربة } أي مقربة من المطعِم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيماً إغاثة له بالإِطعام، وفي كونه ذَا مقربة صلة للرحم.

والمَقْرَبة: قرابة النسب وهو مصدر بوزن مَفْعَلة مثل ما تقدم في { مسغبة }.

والمسكين: الفقير، وتقدم في سورة البقرة (184) عند قوله تعالى: { { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين } { وذا متربة } صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف.

والمَتربة مصدر بوزن مفْعَلة أيضاً وفعِله تَرِب يقال: ترب، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض، وهو في الأصل كناية عن العُروِّ من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منه قولهم في الدعاء: تَرِبت يمينك: وتربَت يداك.

و{ أو } للتقسيم وهو معنى من معاني (أو) جاء من إفادة التخيير.

واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين كان نفي فكّ الرقاب والإِطعام كنايةً عن انتفاء تحلّيهم بشرائع الإِسلام لأن فكّ الرقاب وإطعام الجياع من القُربات التي جاء بها الإِسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الأخلاّء وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيماً ولا مسكيناً في يوم مسغبة، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده. وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعَمين لأن تلك المطاعم كانوا يدْعُون لها أمثالهم من أهل الجِدّة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة.

وفي حديث مسلم "شر الطعام طعامُ الوليمة يُمْنَعْها من يأتيها ويُدعى إليها من يأباها" وروى الطبراني: "شرّ الطعام طعام الوليمة يُدعى إليه الشَّبْعان ويُحبس عنه الجائع" .

وإن كان المراد من الإِنسان واحداً معيناً جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذَمّاً له باللّؤْم والتفاخرِ الكاذب، وفضحاً له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإِسلام فلم يغرم غرامة في فَكاك أسير أو مأخوذٍ بدم أو مَنّ بحُرية على عبدٍ.

وأيَّاَ مَّا كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء.

وجملة: { ثم كان من الذين آمنوا } عطف على جملة { فلا اقتحم العقبة }.

و{ ثم } للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوفة عليه، فيصير تقدير الكلام: فلا اقتحم العقبة بفكّ رقبة أو إطعامٍ بعد كونه مؤمناً. وفي فعل { كان } إشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه.

فعطفُ { ثم كان من الذين آمنوا } على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإِنسان المعين لم يكن من المؤمنين، وأنه ملوم على ما فَرَّط فيه لانتفاء إيمانه، وأنه لو فعل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عملُه شيئاً لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه { ثم } من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال.

وعن عائشة: أنها قالت: «يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله (أي يريد التقرب) فهل ينفعه ذلك شيئاً قال: "لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدِّين" . ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محموداً.

ومن يجعل { ثُم } مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى: لا اقتحم العقبة واتبعها بالإِيمان. أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلمَ لمّا جاء الاسلام.

وقد جاء ذلك صريحاً في حديث حكيم بن حزام في الصحيح: «قال: قلت: يا رسول الله أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما سلف من خير" والتحنّث: التعبد يعني أن دخوله في الإِسلام أفاده إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإِسلام.

وقال: { من الذين آمنوا } دون أن يقول: ثم كان مؤمناً، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإِيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير، كما تقدم في قوله تعالى: { { قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة (67)، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف، وهو جعله بالموصول المشعرِ بأنهم عُرفوا بالإِيمان بَيْن الفرق.

وحُذِف متعلّق { آمنوا } للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإِسلام. فجُعل الفعل كالمستغني عن المتعلق.

وأيضاً ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله: { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة.

وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإِيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر.

والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى: { { رحماء بينهم } [الفتح: 29].

والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضاً كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عَرَف قدرَها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يُوصي بها، كما تقدم في قوله تعالى: { { ولا تّحضّون على طعام المسكين } [الفجر: 18].

وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة، وقد صُرح بذلك في قوله تعالى: { { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللَّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } [فصلت: 33] إلى قوله: { { وما يلقاها إلا الذين صبروا } [فصلت: 35] وقوله: { { بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضُّون على طعام المسكين } [الفجر: 17، 18].