التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
١
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
٢
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
٤
-البلد

التحرير والتنوير

ابتدئت بالقسم تشويقاً لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق.

و{ لا أقسم } معناه: أقسم. وقد تقدم ذلك غير مرة منها ما في سورة الحاقة.

وتقدم القول في: هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به.

والإِشارة بــــ «هذا» مع بيانه بالبلد، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة، ومثله ما في قوله: { { إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة } [النمل: 91]. وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة تمييز المقسم به أكْمَلَ تمييز لقصد التنويه به.

والبلد: جانب من متسع من أرض عامرةً كانتْ كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج:

بلْ بَلَدٍ ملءُ الفجاج قَتمُه

وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلٰهية ولا من صفات أفعاله كنايةٌ عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله.

وجملة: { وأنت حل بهذا البلد } معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية. والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى { وأنتَ حِلّ } فيجوز أن يكون { حِلّ } اسم مصدرِ أحَلّ، أي أباح، فالمعنى وقد جعلَك أهلُ مكة حلالاً بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعَضْدُ شجره، وهم مع ذلك يُحلون قتلك وإخراجَك، قال هذا شُرَحْبيل بن سعد فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإِخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف { حِلّ } يقدر فيه مضاف يعيِّنه ما يصلح للمقام، أي وأنت حلال منك ما حُرِّم من حقِّ ساكن هذا البلد من الحُرمة والأمن. والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحداً. والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها، أي فهم يحرِّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله.

ويجوز أن يكون { حِل } اسماً مشتقاً من الحِلّ وهو ضد المنع، أي الذي لا تَبعة عليه فيما يفعله. قال مجاهد والسدي، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حِل مِمن قَاتلك أن تقاتله. وقريب منه عن ابن عباس، أي مهما تمكنتَ من ذلك. فيصدق بالحال والاستقبال. وقال في «الكشاف»: «يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل: { { إنك ميت وإنهم ميتون } [الزمر: 30]، تقول لمن تَعِدُه بالإِكرام والحباء أنت مكرم محبُوّاً اهــــ.

فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قُدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإِسلام، ووعد بأنه سيمكنه منهم.

وعلى كلا الوجهين في محمل صفة { حِل } هو خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال: "وإنما أحلّت لي ساعةً من نَهَارٍ" الحديث، وفي «الموطإ»: «قال مالك: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (أي يوم الفتح) مُحْرِماً».

ويُثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظرُ في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة. قال الباجي في «المنتقى» وابنُ العربي في «الأحكام»: الداخل مكة غيرَ مريد النسك، لحاجة تتكرر كالحَطّابينَ وأصحاب الفواكهِ والمعاش هؤلاء يجوز دخولهم غيرَ محرمين لأنهم لو كلفوا الإِحرام لَحِقتهم مشقة. وإن كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك: أنه لا بد من الإِحرام، وروي عنه تركُه والصحيح وجوبه، فإن تركه قال الباجي: فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يُفصِّل أهل المذهب بين من كان من أهل داخل الميقاتِ أو مِن خارجه.

والخلاف في ذلك أيضاً بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير إحرام إن لم يُرِد نسكاً من حج أو عمرة، وأما من كان مِن أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإِحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج. وذهب الشافعي إلى سقوط الإِحرام عن غير قاصد النسك، ومذهب أحمد موافق مذهب مالك.

وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين: أن معنى { وأنت حل بهذا البلد } أنه حَال، أي ساكن بهذا البلد اهــــ. وجعله ابن العربي قولاً ولم يَعزُه إلى قائل، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة { وأنت حلّ } في موضع الحال من ضمير { أقسم } فيكون القسم بالبلد مقيداً باعتبار كونه بلَد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال { حِلّ } بمعنى: حَالّ، أي مقيم في مكانٍ فإن هذا لم يرد في كتب اللغة: «الصَحاحِ» و«اللسانِ» و«القاموسِ» و«مفرداتِ الراغب». ولم يعرج عليه صاحب «الكشاف»، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله، وقال الخفاجِي: والحِلّ: صفة أو مصدر بمعنى الحَال هنا على هذا الوجه ولا عبرة بمن أنكره لِعدم ثبوته في كتب اللغة» اهــــ وكيف يقال: لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة، وهل المَرجع في إثبات اللغة إلاّ كتب أيمتها.

وتكرير لفظ { بهذا البلد } إظهار في مقام الإِضمار لقصد تجديد التعجيب. ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يَخْرُج عن حوزتهم.

و{ والد } وقع منكّراً فهو تنكيرَ تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم. فتعين أن يكون المرادَ والداً عظيماً، والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله { وما ولد }.

والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد بــــ { والد } إبراهيمَ عليه السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجَر قال تعالى: { { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنُبني وبَنِيَّ أن نعبد الأصنام } [إبراهيم: 35] ثم قال: { { ربَّنا أنَّي أسكنتُ من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم } [إبراهيم: 37]. وإبراهيم والد سُكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى: { { ملة أبيكم إبراهيم } [الحج: 78]، ولأنه والد محمد صلى الله عليه وسلم.

و{ ما وَلد } موصول وصلة والضمير المستتر في { ولد } عائد إلى { والد }. والمقصود: وما ولده إبراهيم من الأبناء والذرية. وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمداً صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا تعريض بالتنبيه للمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادُوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعِمارَةِ المسجد الحرام قال تعالى: { { إنَّ أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } [آل عمران: 68].

وجيء باسم الموصول { مَا } في قوله: { ومَا ولد } دون (مَن) مع أن (مَن) أكثرُ استعمالاً في إرادة العاقل وهو مراد هنا، فعُدل عن (مَن) لأن { ما } أشدُّ إبهاماً، فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإِبهام لإرادة التفخيم، ونظيره قوله تعالى: { { واللَّهُ أعلم بمَا وضَعَت } [آل عمران: 36] يعني مولوداً عجيبَ الشأن. ويوضِّح هذا أن { ما } تستعمل نَكرة تامة باتفاق، و(مَن) لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي.

ولان قوة الإِبهام في { ما } أنسب بإرادة الجماعة دون واحِدٍ معين، ألا ترى إلى قول الحَكَم الأصم الفَزاري:

اللُّؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالدهِواللؤْمُ أكرمُ من وَبْر ومَا ولَدَا

يريد ومِن أولاده لا ولداً معيّناً.

وجملة: { لقد خلقنا الإنسان في كبد } جواب القسم وهو الغرض من السورة.

والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين، فالتعريف فيه تعريف الجنس، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله: { { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [البلد: 5] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين، فالعموم عموم عرفي، أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ، ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس.

ويجوز أن يراد به إنسان معيّن، فالتعريف تعريف العهد، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال: أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول: من أزالني فله كذا. فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه، وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه: { { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [البلد: 5] وقيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو أبو جهل. وعن مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق.

وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق.

والخلق: إيجاد ما لم يكن موجوداً، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى: { { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } [الزمر: 6] وقوله: { { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } [المائدة: 110]. فهو جعل يغير ذات الشيء.

والكَبَد بفتحتين: التعب والشدة، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلامٍ يجب التِئامُه، ويَحِق وِءَامُه.

وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل { خلقنا } على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل { خلقنا } كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه. وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة. واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر. ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله: { لقد خلقنا الإنسان في كبد } دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله: { { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [البلد: 5]. والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى.

فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله: { { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [التين: 4، 5] بعد القسم بقوله: { { التين والزيتون } [التين: 1] الخ.

فمعنى: { { أيحسب أن لن يقدر عليه } [البلد: 5]: أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقاً آخر، فهو في طريقة القسم والمُقسم عليه بقوله تعالى: { { لا أقسم بيوم القيامة } إلى قوله: { { أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [القيامة: 1 ـــ 4]. أي كما خلقناه أول مرة في نَصَب من أطوار الحياة كذلك نخلقه خلقاً ثانياً في كَبدٍ من العذاب في الآخرة لكفره.

وبذلك يظهر موقع إدماج قوله { في كَبَد } لأن المقصود التنظير بين الخلْقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى.

والظرفية من قوله: { في كبد } مستعملة مجازاً في الملازمة فكأنه مظروف في الكَبَد، ونظيره قوله: { { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } [سبأ: 8، 9] الآية. فالمراد: عذاب الدنيا، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاقِ المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية.

فالمعنى: أن الكَبَد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإِشراك وهو حين تقوُّم العقل وكمالِ الإدراك.

ومن الجائز أن يجعل قوله: { لقد خلقنا الإنسان في كبد } من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتباراً لطيفاً وهو شدة تلبّس الكَبد بالإِنسان المشرك حتى كأنه خُلِق في الكَبَد.

والمعنى: لقد خلقنا الكَبَد في الإنسان الكافر.

وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق.