التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ
١١
إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا
١٢
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا
١٣
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا
١٤
وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
١٥
-الشمس

التحرير والتنوير

{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا }.

إن كانت جملة { { قد أفلح من زكاها } [الشمس: 9] الخ معترضة كانت هذه جواباً للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله: { فدَمْدَم عليهم ربهم بذنبهم } أي حقاً لقد كان ذلك لِذلك، ولام الجواب محذوف تخفيفاً لاستطالة القسم، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى: { { والسماء ذات البروج } [البروج: 1] إلى قوله: { { قتل أصحاب الأخدود } [البروج: 4].

والمقصود: التعريض بتهديد المشركين الذين كذّبوا الرسول طغياناً هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغياناً، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقَسَم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإِنكار لعدم جَرْي أمرهم على موجَب العلم، فكأنه قيل: أقسم لَيصيبكم عذابٌ كما أصاب ثمود، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادَوْهم وآذوهم وأخرجوهم، وذلك أقسى عليهم وأنكى.

فمفعول { كذبت } محذوف لدلالة قوله بعده: { فقال لهم رسول الله } والتقدير: كذبوا رسول الله.

وتقدم ذكْر ثمود ورسولهم صالح عليه السلام في سورة الأعراف.

وباء { بطغواها } للسببية، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم.

والطغوى: اسم مصدر يقال: طغا طَغْوا وطُغياناً، والطغيان: فرط الكِبر، وقد تقدم عند قوله تعالى: { { ويمُدُّهم في طغيانهم يعمهون } في سورة البقرة (15)، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلاً عليهم: { { وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف: 31].

و{ إذْ } ظرف للزمن الماضي يتعلق بــــ { طغواها } لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جُعلت لهم آية وذلك منتهى الجُرأة.

و{ انبعث }: مطاوع بَعَث، فالمعنى: إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك. و{ إذ } مضاف إلى جملة: { انبعث أشقاها }.

وقدم ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله: { فقال لهم رسول الله ناقة الله } لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جُزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقاً بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله، ويستفاد أيضاً من قوله: { فعقروها }.

و{ أشقاها }: أشدها شِقوة، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قُدار (بضم القاف وتخفيف الدال المهملة) ابن سالف، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء.

والفاء من قوله: { فقال لهم رسول الله } عاطفة على { كذبت } فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها، ويَكون معنى الكلام: كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذَّرهم من التعرض لها بسوء ومِن منعهم شربها في نوبتها من السُّقيا، وعطف على { فكذبوه }، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور ثانياً. وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود.

ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى: { { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } [البقرة: 36] فإن إزلالهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإِخراج لا قبله. وقوله: { { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } [الأعراف: 4]، فيكون المعنى: كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها. ثم فُصل ذلك بقوله: { فقال لهم رسول اللَّه } إلى قوله: { فعقروها }، والعقر عند انبعاث أشقاها، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف وهو: { إذ انبعث أشقاها } مقدَّماً من تأخير.

وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعىً فيها أن ثمود اسم قبيلة.

وانتصب { ناقة اللَّه } على التحذير، والتقدير: احذروا ناقة الله. والمراد: التحذير من أن يؤذوها، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات، والمرادُ: أحوالها.

وإضافة { ناقة } إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقاً للعادة.

والسقيا: اسم مصدر سَقى، وهو معطوف على التحذير، أي احذروا سقيها، أي احذروا غصب سقيها، فالكلام على حذف مضاف، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقاً للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات. والمراد: حالة تعرف من المقام، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها.

والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله: { ناقة اللَّه }، تكذيب ثانٍ وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد. والإِنذارُ بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف (73) في قوله: { { ولا تَمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } }. وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإِنذار بالعذاب.

والعَقْر: جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحَر في لبته، فالعقر كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما.

{ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـٰهَا }.

أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب. والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى: { { فأخذتهم الصيحة } [الحجر: 73]، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها. فوزن دَمْدَم فَعْلَل، وقال أكثر المفسرين: دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض، يقال: دَمَّمَ عليه القبر، إذا أطبقه ودَمْدَم مكرر دَمَّم للمبالغة مثل كَبْكَب، وعليه فوزن دَمْدَم فَعْلَلَ.

وفرع على «دمدم عليهم» { فسواها } أي فاستَووا في إصابتها لهم، فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من «دمدم عليهم».

ومن فسروا «دمدم» بمعنى: أطبق عليهم الأرض قالوا معنَى «سوَّاها»: جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم، وجَعَلوا ضمير المؤنث عائداً إلى الأرض المفهومة من فعل «دمدم» فيكون كقوله تعالى: { { لو تسَّوَّى بهم الأرضُ } [النساء: 42].

وبين { فسواها } هنا وقوله: { { وما سواها } [الشمس: 7] قبله محسن الجناس التام.

والعقبى: ما يحصل عقِب فعل من الأفعال مِن تبعة لفاعِلِه أو مَثوبة، ولما كان المذكور عقاباً وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنّى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدَأ له بال حتى يثأر لنفسه، ولذلك يقولون: الثَّأْر المُنِيم، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذراً من أن يتمكن مغلوبُه من الثأر، أخْبَرَ الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبُه على أخذ الثأر منه، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين، وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة { ولا يخاف عقباها } تذييل للكلام وإيذان بالختام.

ويجوز أن يكون قوله: { ولا يخاف عقباها } تمثيلاً لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك مَن يثأر له فيكون المثَل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { فلا يخاف عقباها } بفاء العطف تفريعاً على { فدمدم عليهم ربهم } وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام... ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوَّتهم ليرتدع بهذا العلم أمثالهم من المشركين.

وقرأ الباقون من العشرة: { ولا يخاف عقباها } بواو العطف أو الحال، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة، وهي رواية قُرائها. وقال ابن القاسم وابن وهب: أخرج لنا مالك مصحفاً لجدِّه وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كَتب المصاحف وفيه { ولا يخاف } بالواو، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرأوا بذلك لمخالفته روايتهم.