التفاسير

< >
عرض

فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

التحرير والتنوير

يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذِكري إذا كان فعل: «أنذرتكم» مستعملاً في ماضيه حقيقةً وكان المراد الإِنذار الذي اشتمل عليه قوله: { { وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } [الليل: 8 ـــ 10] إلى قوله: { { تردى } [الليل: 11]. وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدلّ على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذارٍ مفصَّلٍ على إنذارٍ مجمل.

ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعلُ «أنذرتكم» مراداً به الحال وإنما صيغ في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في: قد قَامت الصلاة، وقولهم: عزمت عليك إلاّ ما فعلت كذا، أي أعزم عليك، ومثل ما في صيغ العقود: كبعتُ، وهو تفريع على جملة: { { إن علينا للهدى } [الليل: 12] والمعنى: هديكم فأنذرتكم إبلاغاً في الهدى.

وتنكير { ناراً } للتهويل، وجملة { تلظّى } نعت. وتلظى: تلتهب من شدة الاشتعال. وهو مشتق من اللّظى مصدر: لَظَيَتْ النار كرَضيتْ إذا التهبت، وأصل { تلظى } تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار.

وجملة { لا يصلاها إلا الأشقى } صفة ثانية أو حال من { ناراً } بعد أن وصفت. وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله: { { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } [البقرة: 24] والقرينة على ذلك قوله: { وسيجنبها الأتقى } الآية.

وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال: هذه الآية التي من أجلها قال أهلُ الإِرجاء بالإِرجاء فزعموا: أن لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ظنوا: هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اهــــ.

والمعنى: لا يصلاها إلا أنتم.

وقد أتبع { الأشقى } بصفة { الذي كذب وتولى } لزيادة التنصيص على أنهم المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتولوا، أي أعرضوا عن القرآن، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين: إما كافر وإما مؤمن تقي، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإِسلام بشراشرهم، ولذلك عطف { وسيجنبها الأتقى } الخ تصريحاً بمفهوم القصر وتكميلاً للمقابلة.

و{ الأشقى } و{ الأتقى } مراد بهما: الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام.

وذكر القرطبي: أن مالكاً قال: صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ { والليل إذا يغشى } فلما بلغ: { فأنذرتكم ناراً تلظىٰ } وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعدّاها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى».

ووصف { الأشقى } بصلة { الذي كذب وتولى }، ووصف { الأتقى } بصلة { الذي يؤتى ماله يتزكى } للإِيذان بأن للصلة تسبباً في الحكم.

وبين { الأشقى } و{ الأتقى } محسن الجناس المضارع.

وجملة { يتزكى } حال في ضمير { يؤتي }، وفائدة الحال التنبيه على أنه يؤتي ماله لقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضاً بالمشركين الذي يؤتون المال للفخر والرياء والمفاسد والفجور.

والتزكي: تكلف الزكاء، وهو النماء من الخير.

والمَال: اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها.

ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل.

وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله.

وقوله: { وما لأحد عنده من نعمة تُجزى } الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمَّا أعتق بلالاً قال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده. وهو قول من بهتانهم (يعللون به أنفسهم كراهية لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين)، فأنزل الله تكذيبهم بقوله: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } مراداً به بعض من شمله عموم { الذي يؤتي ماله يتزكى }، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصـص للعموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله: { { وآتى المال على حبه ذوي القربى } [البقرة: 177]، وقوله: { { إنما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [الإنسان: 9].

و{ عنده } ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازاً في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب، قال الحارث بن حِلِّزَة:

من لنا عِندَه من الخير آيات ثلاث في كلهن القضاء

و{ من نعمة } اسم { ما } النافية جر بــــ { من } الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي، والاستثناء في { إلا ابتغاء وجه ربه } مُنقطع، أي لكن ابتغاء لوجه الله.

والابتغاء: الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي.

والوجه مستعمل مراداً به الذات كقوله تعالى: { { ويبقى وجه ربك } [الرحمٰن: 27]. ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضا الله.

وقوله: { ولسوف يرضى } وعد بالثواب الجزيل الذي يرضى صاحبه. وهذا تتميم لقوله: { وسيجنبها الأتقى } لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله: { لا يصلاها إلا الأشقى } فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات.

وحرف «سَوف» لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله: { { قال سوف أستغفر لكم ربي } [يوسف: 98] أي يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد.

واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر.

وهذه من جوامع الكلم لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون. وبهذه السورة انتهت سورة وسط المفصّل.