التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ
٦
أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ
٧
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ
٨
أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ
٩
عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ
١٠
-العلق

التحرير والتنوير

استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله.

وحرف { كلاّ } ردع وإبطال، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإِبطال والردع، فوجود { كلا } في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله: { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } الآية.

وحقُّ { كلاّ } أن تقع بعد كلام لإِبطاله والزجر عن مضمونه، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإِبطال وبردع قائله، فابتدىء الكلام بحرف الردع للإِبطال، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يَلي الحرف كما في قول امرىء القيس:

فلا وأبيكِ ابْنة العَامِريّ لا يدَّعي القومُ أنّي أفِرّ

رَوى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: "قال أبو جهل: هل يَعْفِرُ محمد وجهه (أي يسجد في الصلاة) بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللاتِ والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطَأنَّ على رقبته فأتَى رسولَ الله وهو يصلي زعَم لِيطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتّقي بيده. فقيل له: ما لك يا أبا الحَكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضْواً عضواً" قال: فأنزل الله، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: { إن الإنسان ليطغى } الآيات اهــــ.

وقال الطبري: ذكر أن آية { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن رقبته. فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءاً بقوله: { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى }.

ووجه الجمع بين الروايتين: أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوّله { أرأيت الذي ينهى } الخ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو: { إن الإنسان ليطغى } إلى { الرجعى }.

واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذِكر الصلاة فيها. وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين، فقال بعضهم: إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، ونزل بينهن قرآن آخر ثم نزلت هذه الآيات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها، وقال بعض آخر: ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن.

وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عَقبه من الحوادث أن الوحي فتَر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة. وقال السهيلي: كانت المدة سنتين، وفيه بعد. وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحياً ليس من القرآن. وقال السهيلي في «الروض الأنُف»: ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإِسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس (أي العصر) وصلاة قبل طلوعها (أي الصبح)، وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإِسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اهــــ. فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى: { { واسجد واقترب } [العلق: 19] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها.

فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن، جرياً على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بيِّن، وجرياً على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت.

فموقع قوله: { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } موقع المقدمة لما يَرد بعده من قوله: { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى قوله: { { لا تطعه } [العلق: 19] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون: { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى قوله: { { فليدع ناديه } [العلق: 17].

والمعنى: أن ما قاله أبو جهل ناشىء عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإِنسان.

والتعريف في { الإنسان } للجنس، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحسّ من نفسه الاستغناء، واللام مفيدة الاستغراق العرفي، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خُلقه أو دينه.

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه.

والطغيان: التعاظم والكبر.

والاستغناء: شدة الغنى، فالسين والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر.

و{ وَأنْ رآه } متعلق بــــ «يطغى» بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع (أنْ) كثير شائع، والتقدير: إنّ الإِنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنياً.

وعلة هذا الخُلق أن الاستغناء تحدث صاحبَه نفسُه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقاً حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لأمةِ سلاحٍ وخدمٍ وأعوان وعُفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأُجراء فهو في عزة عند نفسه.

فقد بينت هذه الآية حقيقةً نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس. ونبهت على الحذر من تغلغلها في النفس.

وضمير { رآه } المستتر المرفوع على الفاعلية وضميرُه البارز المنصوب على المفعولية كلاهما عائد إلى الإِنسان، أي أن رأى نفسه استغنى.

ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد: أحدهما فاعل، والآخر مفعول في كلام العرب، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: { { قال أرأيتك هذا الذي كرَّمتَ عليَّ } في سورة الإسراء (62). قال الفراء: والعرب تطرح النفس من هذا الجنس (أي جنس أفعال الظن والحسبان) تقول: رأيتُني وحسبتُني، ومتى تَراك خارجاً، ومتى تظُنك خارجاً، وألحقت (رأى) البصرية ب(رأى) القلبية عند كثير من النحاة كما في قول قطري بن الفجاءة:

فلقد أراني للرِّمَاح دَريئةمن عن يميني مرة وأمامي

ومن النادر قول النّمر بن تَوْلَب:

قد بِتُّ أحْرُسُنِي وَحْدِي وَيَمْنَعُنِيصوتُ السباع به يضبَحْن والْهامِ

وقرأ الجميع { أن رآه } بألف بعد الهمزة، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن ابن كثير «رأه» بدون ألف بعد الهمزة، قال ابن مجاهد: هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجهاً غريباً عن قنبل.

وأُلحق بهذه الأفعال: فعل فقَدَ وفعل عَدِم إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل: فقَدْتُني وعَدِمْتُني.

وجملة: { إن إلى ربك الرُّجعى } معترضة بين المقدمة والمقصد والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أي مرجع الطاغي إلى الله، وهذا موعظة وتهديد على سبيل التعريض لمن يسمعه من الطغاة، وتعليم للنبيء صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، أي لا يحزنك طغيان الطاغي فإن مرجعه إليّ، ومرجع الطاغي إلى العذاب قال تعالى: { { إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً } [النبأ: 21، 22] وهي موعظة للطاغي بأن غناه لا يدفع عنه الموت، والموت: رجوع إلى الله كقوله: { { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [الانشقاق: 6].

وفيه معنى آخر وهو أن استغناءه غير حقيقي لأنه مفتقر إلى الله في أهم أموره ولا يدري ماذا يصيِّره إليه ربُّه من العواقب فلا يَزْدَهِ بغنًى زائف في هذه الحياة فيكون: { الرُّجعى } مستعملاً في مجازه، وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه، وتأكيد الخبر بــــ (إن) مراعى فيه المعنى التعريضي لأن معظم الطغاة ينسون هذه الحقيقة بحيث يُنزَّلون منزلة من ينكرها.

و{ الرجعى }: بضم الراء مصدر رجع على زنة فُعلى مثل البُشرى.

وتقديم { إلى ربك } على { الرجعى } للاهتمام بذلك.

وجملة: { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } إلى آخرها هي المقصود من الردع الذي أفاده حرف { كلاّ }، فهذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً متصلاً باستئناف جملة: { إن الإنسان ليطغى }.

و{ الذي ينهى } اتفقوا على أنه أريد به أبو جهل إذ قال قولاً يريد به نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد الحرام فقال في ناديه: لئن رأيت محمداً يصلي في الكعبة لأطَأنَّ على عنقه. فإنه أراد بقوله ذلك أن يبلُغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو تهديد يتضمن النهي عن أن يصلي في المسجد الحرام ولم يروَ أنه نهاه مشافهة.

و{ أرأيت } كلمة تعجيب من حالٍ، تُقال للذي يُعْلَم أنه رأى حالاً عجيبة. والرؤية علمية، أي أعلمت الذي ينهى عبداً والمستفهم عنه هو ذلك العلم، والمفعول الثاني لــــ «رأيت» محذوف دل عليه قوله في آخر الجمل { { ألم يعلم بأن الله يرى } [العلق: 14].

والاستفهام مستعمل في التعجيب لأن الحالة العجيبة من شأنها أن يستفهم عن وقوعها استفهام تحقيق وتثبيت لِنَبئها إذ لا يكاد يصدق به، فاستعمال الاستفهام في التعجيب مجاز مرسل في التركيب. ومجيء الاستفهام في التعجيب كثير نحو { { هل أتاك حديث الغاشية } [الغاشية: 1].

والرؤية علمية، والمعنى: أعجب ما حصل لك من العلم قال الذي ينهى عبداً إذا صلّى. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية لأنها حكاية أمر وقع في الخارج والخطاب في { أرأيت } لغير معيّن.

والمراد بالعبد النبي صلى الله عليه وسلم وإطلاق العبد هنا على معنى الواحد من عباد الله أيّ شَخْصٍ كما في قوله تعالى: { { بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد } [الإسراء: 5]، أي رجالاً. وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلّي. فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أوقع، وصيغة المضارع في قوله: { ينهى } لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضى.

والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل { ينهى } أي نهاه عن صلاته.