التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ
٨
-التكاثر

أضواء البيان في تفسير القرآن

أصل النعيم كل حال ناعمة من النعومة والليونة، ضد الخشونة واليبوسة، والشدائد، كما يشير إليه قوله تعالى: { { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل: 53].
ثم قال:
{ { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [النحل: 53]، فقابل النعمة بالضر.
ومثله قوله تعالى:
{ { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } [هود: 10].
وعلى هذا فإن نعم الله عديدة، كما قال:
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [النحل: 18].
وبهذا تعلم أن كل ما قاله المفسرون، فهو من قبيل التمثيل لا الحصر، كما قال تعالى: { لاَ تُحْصُوهَآ }.
وأصول هذه النعم أولها بالإسلام
{ { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة: 3].
ويدخل فيها نعم التشريع والتخفيف، عما كان على الأمم الماضية.
كما يدخل فيها نعمة الإخاء في الله
{ { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [آل عمران: 103]، وغير ذلك كثيراً.
وثانيها: الصحة، وكمال الخلقة والعافية، فمن كمال الخلقة الحواس
{ { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } [البلد: 8-9].
ثم قال:
{ { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36].
وثالثها: المال في كسبه وإنفاقه سواء، ففي كسبه من حله نعمة، وفي إنفاقه في أوجهه نعمة.
هذه أصول النعم، فماذا يسأل عنه، منها جاءت السنة بأنه سيسأل عن كل ذلك جملة وتفصيلا.
أما عن الدين والمال والصحة، ففي مجمل الحديث
"إذا كان يوم القيامة، لا تزل قدم عبد حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أبلاه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن شبابه فيم أفناه" .
ولعظم هذه الآية وشمولها، فإنها أصبحت من قبيل النصوص مضرب المثل، فقد فصلت السنة جزئيات ما كانت تخطر ببال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى القرطبي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا، والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخركما، قوما فقاما فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً! وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء - أي يطلب ماءً عذباً -. إذ جاء الأنصاريُّ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحدٌ اليوم أكرم أضيافاً مني. قال: فانطلق فجاءهم بِعذْق فيه بُسْرٌ وتمرٌ ورُطبٌ، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحَلوب، فذبح لهم: فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العِذق، وشربوا، فلما أن شبعوا وَرووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده! لتُسأَلن عن هذا يوم النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" وخرجه الترمذي.
وقال فيه:
"هذا والذي نفسي بيده، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد ورطب طيب، وماء بارد" وكنى الرجل الذي من الأنصار.
فقال: أبو الهيثم بن التيهان.
قال القرطبي: قلت: اسم هذا الرجل مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم.
وقد ذكر ابن كثير هذه القصة من عدة طرق.
ومنها: عند أحمد
"أن عمر رضي الله عنه أخذ بالفرق وضرب به الأرض، وقال: إنا لمسؤولون عن هذا يا رسول الله؟ قال: نعم، إلا من ثلاثة: خرقة لف الرجل بها عورته، أو كسرة سد بها جوعه، أو حجر يدخل فيه من الحر والقر" .
وقال سفيان بن عيينة: إن ما سد الجوع، وستر العورة من خشن الطعام، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم، والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة فقال له: { { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } [طه: 118-119].
فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يسكن فيه من الحر ويستر به عورته، لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليها لأنه لا بد له منها.
وذكر عن أحمد أيضاً بسنده
"أنهم كانوا جلوساً فطلع عليهم النَّبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا: يا رسول الله، نراك طيب النفس؟
قال: أجل، قال: خاض الناس في ذكر الغنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس بالغنى لمن اتقى الله، والصحة لمن اتقى الله، خير من الغنى، وطيب النفس من النعم"
.
قال: ورواه ابن ماجه0 عن أبي هريرة.
وبهذا، فقد ثبت من الكتاب والسنة، أن النعيم الذي هو محل السؤال يوم القيامة عام في كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا، حساً كان أو معنى.
حتى قالوا: النوم مع العافية، وقالوا: إن السؤال عام للكافر والمسلم، فهو للكافر توبيخ وتقريع وحساب، وللمؤمن تقرير بحسب النعمة وجحودها وكيفية تصريفها. والعلم عند الله تعالى.
وكل ذلك يراد منه الحث على شكر النعمة، والإقرار للمنعم والقيام بحقه سبحانه فيها، كما قال تعالى عن نبي الله:
{ { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف: 15].
اللَّهم أوزعنا شكر نعمتك، واجعل ما أنعمت علينا عوناً لنا على طاعتك.