التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
١
-هود

أضواء البيان في تفسير القرآن

اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافاً كثيراً، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحداً من تلك الأقوال، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول، وبالله جل وعلا نستعين:
قال بعض العلماء: هي مما استأثر الله تعالى بعلمه. كما بيناه في "آل عمران" وممن روي عنه هذا القول: أبو بكر، وعمر، وعثمان. وعلي، وابن مسعود – رضي الله عنهم – وعامر والشعبي، وسفيان الثوري، والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم بن حبان.
وقيل: هي أسماء للسور التي افتتحت بها. وممن قال هذا بهذا القول: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم. قال الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر. ونقل عن سيبويه أنه نص عليه. ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة { الم } السجدة، و{ هل أتى على الإنسان }" .
ويدل له أيضاً قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل، وهو شريح ابن أبي أوفى العبسي. كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن:

يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلاً: إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور. وذكر أبو مخنف: أنه لمدلج بن كعب السعدي. ويقال كعب بن مدلج. وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر. قال المرزباني: وهو الثبت، وأنشد له البيت المذكور وقبله:

وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاًعلياً ومن لا يتبع الحق يندم

يذكرني حاميم... البيت. ا هـ من فتح الباري.
فقوله: "يذكرني حاميم"، بإعراب "حاميم" إعراب ما لا ينصرف – فيه دلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة.
وقيل: هي من اسماء الله تعالى. وممن قال بهذا: سالم بن عبد الله، والشعبي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضاً: أنها أقسام أقسم الله بها. وهي من أسمائه. وروي نحوه عن عكرمة.
وقيل: هي حروف، كل واحد منها من اسم من أسماءه جل وعلا. فالألف من "الم" مثلاً: مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه اللطيف، والميم: مفتاح اسمه مجيد، وهكذا. ويروى هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي العاليه. واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز:

قلت لها قفي فقالت لي قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف

فقوله: "قاف" أي وقفت. وقول الآخر:

بالخير خيرات وإن شراً فاولا أريد الشر إلا أن تا

يعني: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين.
قال القرطبي: وفي الحديث
" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث. قال سفيان: هو أن يقول في أقتل: أ ق. إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور، وهي نحو ثلاثين قولاً.
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف.
قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماُ عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه.
وذكر ذلك بعدها دائماَ دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق.
قال تعالى في البقرة:
{ { الۤمۤ } [البقرة: 1] وأتبع ذلك بقوله { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 2] وقال في آل عمران { الۤمۤ } [آل عمران: 1] وأتبع ذلك بقوله: { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } [آل عمران: 2 –3] الآية. وقال في الأعراف: { الۤمۤصۤ } ثم قال { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْك } الآية. وقال في سورة يونس: { { الۤر } ثم قال: { { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } [يونس: 1] وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها – أعني سورة هود { الۤر } ثم قال { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير } [هود: 1]، وقال في يوسف: { { الۤرً } ثم قال: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف: 1] { { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا } [يوسف: 2] الآية. وقال في الرعد: { الۤمۤرّ } ثم قال: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَق } [الرعد: 1]، وقال في سورة إبراهيم { { الۤر } ثم قال { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّور } [إبراهيم: 1] الآية. وقال في الحجر: { الۤرَ } ثم قال: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [الحجر: 1] وقال في سورة طه { { طه } [طه: 1] ثم قال: { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } [طه: 2] وقال في الشعراء: { { طسۤمۤ } [الشعراء: 1] ثم قال { { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَك } [الشعراء: 2-3] الآية. وقال في النمل: { طسۤ } ثم قال { { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِين } [النمل: 1] وقال في القصص { طسۤمۤ } [القصص: 1] ثم قال { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [القصص: 2] { { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْن } [القصص: 3] الآية. وقال في لقمان { الۤـمۤ } [لقمان: 1] ثم قال { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } [لقمان: 2] { { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِين } [لقمان: 3] وقال في السجدة { الۤـمۤ } [السجدة: 1] ثم قال { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِين } [السجدة: 2] وقال في يس { يسۤ } } [يس: 1] ثم قال { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [يس: 2] الآية وقال في ص { { صۤ } ثم قال { { وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ص: 1] الآية وقال في سورة المؤمن { حـمۤ } [المؤمن: 1] ثم قال { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيم } [المؤمن: 2] الآية. وقال في فصلت { حـمۤ } [فصلت: 1] ثم قال { تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [فصلت: 2-3] الآية وقال في الشورى { حـمۤ عۤسۤقۤ } [الشورى: 1-2] ثم قال { { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } [الشورى: 3] الآية وقال في الزخرف { { حـمۤ } [الزخرف: 1] ثم قال { { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [الزخرف: 2-3] الآية وقال في الدخان { حمۤ } [الدخان: 1] ثم قال { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 2-3] الآية وقال في الجاثية { حمۤ } [الجاثية: 1] ثم قال { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ إِنَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِين } [الجاثية: 2-3] وقال في الأحقاف { { حـمۤ } [الأحقاف: 1] ثم قال { { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [الأحقاف: 2-3] الآية. وقال في سورة ق { قۤ } ثم قال { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيد } [ق: 1] الآية.
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا.
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس. لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالباً، والبقرة، وآل عمران مدنييتان والغالب له الحكم، واخترنا لبيان ذلك سورة هود. لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح. لأن قوله تعالى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } بعد قوله { الۤر } واضح جداً فيما كرنا، والعلم عند الله تعالى.