التفاسير

< >
عرض

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
-هود

أضواء البيان في تفسير القرآن

يبين تعالى في هذه الآية الكريمة. أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جداً، كقوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق: 16] وقوله جل وعلا: { { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ } [البقرة: 235] وقوله: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } [الأعراف: 7]، وقوله { { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [يونس: 61] الآية. ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى.
تنبيه مهم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون. وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر. والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس، فقالوا: لو فرضنا أن ملكاً قتّالا للرجال، سفّاكاَ للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دماً، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه؟! لا، وكلا! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك [ولله المثل الأعلى] أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً، وأعظم مراقبة، وأشد بطشاً، وأعظم نكالا وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه. فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لأن قلبه، خشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً، ولم يقل: أيهم أكثر عملاً، فالابتلاء في إحسان العلم، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] الآية.
وقال في الملك:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [الملك: 2].
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى أي يختبر: بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبرني عن الإحسان"، أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختيار فيه، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له:
"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .
واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } وقوله { يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } وفي مرجع الضمير في قوله: { مِنْهُ }.
فقال بعض العلماء: معنى { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يزورون عن الحق، وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. بهذا فسره الزمخشري في الكشاف.
قال مقيده – عفا الله عنه – وهذا المعنى معروف في كلام العرب، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه.
فمن الأول قول ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب:

خليلي عوجا بارك الله فيكما على دارمي من صدور الركائب
تكن عوجة يجزيكما الله عنده بها الأجر أو تقضي ذمامة صاحب

يعنى: اثنيا صدور الركائب إلى دارمي:
ومن الثاني قول الشنفرى.

اقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومي سواكم لأميل

وقول الآخر:

أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيش شطر بني تميم

وقيل: نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة.
كان حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنَّبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا لا يراه النَّبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان. حكي معناه عن عبد الله بن شداد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب، يستحيون من الله.
وقال بعض العلماء: معنى { يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله، كقوله تعالى عن نوح:
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } [نوح: 7] الآية.
وقيل: كانوا إذا عملوا سوءاً ثنوا صدورهم وغطوا رؤوسهم، يظنون أنهم إن فعلوا ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } الآية.
وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة "ألا إنهم تثنوني صدورهم" وتثنوني مضارع اثنوني، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة وصدورهم "في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل تثنوني، والضمير في قوله "منه" عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين. وقيل: راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية.