التفاسير

< >
عرض

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً
٣
-النصر

أضواء البيان في تفسير القرآن

تقدم الكلام على التسبيح ومتعلقه وتصريفه.
وهنا قرن التسبيح بحمد الله، وفيه ارتباط لطيف بأول السورة وموضوعها، إذ هي في الدلالة على كمال مهمة الرسالة بمجيء نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدينه. ومجيء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله بالفعل أو بالوعد الصادق كما تقدم، وهي نعمة تستوجب الشكر ويستحق موليها الحمد.
فكان التسبيح مقترناً بالحمد في مقابل ذلك وقوله: { بِحَمْدِ رَبِّكَ }، ليشعر أنه سبحانه المولى للنعم، كما جاء في سورة الضحى في قوله تعالى:
{ { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 3].
وقوله في سورة اقرأ:
{ { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [العلق: 1]، وتكرارها { { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } [العلق: 3]، لأن صفة الربوبية مشعرة بالإنعام.
وقوله: { وَٱسْتَغْفِرْهُ }، قال البعض: إن الاستغفار عن ذنب فما هو. وتقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند قوله تعالى:
{ { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [الشرح: 2].
ومما تجدر الإشارة إليه أن التوبة دعوة الرسل، ولو بدأنا من آدم عليه السلام مع قصته ففيها
{ { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة: 37]، ومعلوم موجب تلك التوبة.
ثم نوح عليه السلام يقول:
{ { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [نوح: 28] الآية.
وإبراهيم عليه السلام يقول:
{ { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 128].
وبناء عليه قل بعض العلماء: إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح، فلا يلزم منه وجود ذنب.
وقيل: هو تعليم لأمته.
وقيل: رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في السنة، أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة" ، فتكون أيضاً من باب الاستكثار من الخير، والإنابة إلى الله تعالى.
تنبيه
جاء في التفسير عند الجميع أنه صلى الله عليه وسلم منذ أن نزلت هذه السورة وهو لم يكن يدع قوله:
"سبحانك اللهم وبحمدك" تقول عائشة رضي الله عنها: "يتأول القرآن" أي يفسره، ويعمل به.
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنه قال: والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين، من الجمع بين الطاعة والاحتراز من المعصية، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفاً لأمته، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس فهو عبادة في نفسه.
وفي هذا لفت نظر لأصحاب الأذكار والأوراد الذين يحرصون على دوام ذكر الله تعالى، حيث هذا كان من أكثر ما يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء دون الملازمة على ذكر اسم من أسماء الله تعالى وحده، منفرداً مما لم يرد به نص صحيح ولا صريح.
ولا شك أن الخير كل الخير في الاتباع لا في الابتداع، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ويأمر به، ويلازم هو عليه.
وقلنا في آخر حياته: لأنه صلى الله عليه وسلم توفي بعدها بمدة يسيرة.
وفي هذه الآية دلالة الإيمان، كما قالوا: ودلالة الالتزام كما جاء عن ابن عباس في قصة عمر رضي الله عنه مع كبار المهاجرين والأنصار، حينما كان يسمح له بالجلوس معهم، ويرى في وجوههم، وسألوه وقالوا:
إن لنا أولاداً في سنه، فقال: إنه من حيث علمتم.
وفي يوم اجتمعوا عنده فدعاه عمر، قال ابن عباس، فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر فسألهم عن قوله تعالى:
{ { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [النصر: 1]، السورة.
فقالوا: إنها بشرى بالفتح وبالنصر، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟
قال: فقلت، لا والله، إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا.
فقال عمر: وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت: أي أنه صلى الله عليه وسلم جاء لمهمة، وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في الدين أفواجاً.
وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة. فعليه أن يتأهب لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله، وهو مأخذ في غاية الدقة، وبيان لقول علي رضي الله عنه: أو فهم أعطاه الله من شاء في كتاب الله.