التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ
١
مَلِكِ ٱلنَّاسِ
٢
إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ
٣
-الناس

أضواء البيان في تفسير القرآن

تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الإحالة على هذه السورة عند كلامه على قوله تعالى: { { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [هود: 2]، في سورة هود، فقال على تلك الآية: فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك في عبادته شيء.
وساق الآيات المماثلة لها ثم قال: وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة، وسنقضي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة الناس، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى اهـ.
وإن في هذه الإحالة منه رحمة الله تعالى علينا وعليه لتنبهاً على المعاني التي اشتملتها هذه السورة الكريمة، وتوجيهاً لمراعاة تلك الخاتمة.
كما أن في تلك الإحالة تحميل مسؤولية الاستقصاء حيث لم يكتف بما قدمه في سورة الفاتحة، ولا فيما قدمه في سورة هود، وجعل الاستقصاء في هذه السورة، ومعنى الاستقصاء: الاستيعاب إلى أقصى حد.
وما أظن أحداً يستطيع استقصاء ما يريده غيره، ولا سيما ما كان يريده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وما يستطيعه هو.
ولكن على ما قدمنا في البداية: أنه جهد المقل ووسع الطاقة. فنستعين الله ونستهديه مسترشدين بما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الفاتحة وهود، ثم نورد وجهة نظر في السورتين معاً الفلق والناس، ثم منهما وفي نسق المصحف الشريف، آمل من الله تعالى وراج توفيقه ومعونته.
أما الإحالة فالذي يظهر أن موجبها هو أنه في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال: رب الناس، ملك الناس، إله الناس، ولكأنها لأول وهلة تشير إلى الرب الملك هو الإله الحق الذي يستحق أن يعبد وحده.
ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها: هو الله أحد، الله الصمد، وهذا هو منطق العقل والقول الحق، لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية، والعبودية تستلزم التأليه والتوحيد في الألوهية، لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك، وإن كان مالكه عبداً مثله، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه، وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد الفرد الصمد؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث: الرب الملك الإله، في أول افتتاحية أول المصحف:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 2-4]، والقراءة الأخرى { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.
وفي أول سورة البقرة اول نداء يوجه للناس بعبادة الله تعالى وحده، لأنه ربهم مع بيان الموجبات لذلك في قوله تعالى:
{ { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21].
ثم بين الموجب لذلك بقوله:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة: 21].
وقوله:
{ { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [البقرة: 22].
وهذا كله من آثار الربوبية واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة، ثم بين موجب إفراده وحده بذلك بقوله:
{ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:22].
أي كما أنه لا ندَّ له في الخلق ولا في الرزق ولا في شيء مما ذكر، فلا تجعلوا لله أنداداً أيضاً في عبادة، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك.
وعبادته تعالى وحده ونفى الأنداد، هو ما قال عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً.
فالإثبات في قوله تعالى:
{ { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } [النساء: 36].
والنفي في قوله:
{ { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [البقرة: 22].
وكون الربوبية تستوجب العبادة، جاء صريحاً في قوله تعالى:
{ { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 3-4].
فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة، وسيأتي لذلك زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في نهاية السورة.
وقد جاء هنا لفظ { بِرَبِّ ٱلنَّاسِ }، بإضافة الرب إلى الناس، بما يشعر بالاختصاص، مع أنه سبحانه رب العالمين ورب كل شيء، كما في أول الفاتحة:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2].
وفي قوله:
{ { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 164].
فالإضافة هنا إلى بعض أفراد العام.
وقد أضيف إلى بعض أفراد أخرى كالسماوات والأرض وغيرها من بعض كل شيء، كقوله:
{ { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ } [الرعد: 16].
وقوله:
{ { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل: 9].
وإلى البيت
{ { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } [قريش: 3].
وإلى البلد الحرام
{ { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ } [النمل: 91].
وإلى العرش
{ { رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [المؤمنون: 116].
وإلى الرسول
{ { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [الأنعام: 106].
وقوله:
{ { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } [المدثر: 3]، إلى غير ذلك.
ولكن يلاحظ أنه مع كل إضافة من ذلك ما يفيد العموم، وأنه مع إضافته لفرد من أفراد العموم، فهو رب العالمين، ورب كل شيء، ففي إضافته إلى السماوات والأرض جاء معها
{ { قُلِ ٱللَّهُ } [الرعد: 16].
وفي الإضافة إلى المشرق والمغرب جاء
{ { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل: 9].
وفي الإضافة إلى البيت جاء
{ { ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4] وهو الله سبحانه.
وفي الإضافة إلى البلدة جاء
{ { ٱلَّذِي حَرَّمَهَا } [النمل: 91]، وهو الله تعالى.
وفي الإضافة إلى العرش جاء قوله تعالى:
{ { فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ } [المؤمنون: 116].
وفي الإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاء قوله:
{ { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } [الضحى: 3]، وغير ذلك من الإضافة، إلى أي فرد من أفراد العموم يأتي معها ما يفيد العموم، وأن الله رب العالمين.
وهنا رب الناس جاء معها { مَلِكِ ٱلنَّاسِ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } [الناس: 2-3]، ليفيد العموم أيضاً. لأن إطلاق الرب قد يشارك فيه السيد المطاع، كما في قوله:
{ { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31].
وقول يوسف لصاحبه في السجن:
{ { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [يوسف: 42]، أي الملك على أظهر الأقوال، وقوله: { { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ } [يوسف: 50] الآية.
فجاء بالملك والإله للدلالة على العموم، في معنى رب الناس، فهو سبحانه رب العالمين ورب كل شيء، ولكن إضافته هنا إلى خصوص الناس إشعار بمزيد اختصاص، ورعاية الرب سبحانه لعبده الذي دعاه إليه ليستعيذ به من عدوه، كما أن فيه تقوية رجاء العبد في ربه بأنه سبحانه بربوبيته سيحمي عبده لعبوديته ويعيذه مما استعاذ به منه.
ويقوي هذا الاختصاص إضافة الرب للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أطواره منذ البدأين: بدأ الخلقة وبدأ الوحي، في قوله:
{ { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 1-2]، ثم في نشأته { { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 3] - إلى قوله { { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } [الضحى: 6-8].
وجعل الرغبة إليه في السورة بعدها
{ { وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ } [الشرح: 8]، بعد تعداد النعم عليه من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، ثم في المنتهى قوله: { { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [العلق: 8].
قوله تعالى: { مَلِكِ ٱلنَّاسِ }، في مجيء ملك الناس بعد رب الناس، تدرج في التنبيه على تلك المعاني العظام، وانتقال بالعباد من مبدإ الإيمان بالرب لما شاهدوه من آثار الربوبية في الخلق والرزق، وجميع تلك الكائنات، كما تقدم في أول نداء وجه إليهم
{ { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [البقرة: 21-22].
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقروا بموجبها، بأن الذي أوجدها هو ربهم، ومن ثم ينتقلون إلى الدرجة الثانية، وهي أن ربه الذي هذه أفعاله هو ملكه وهو المتصرف في تلك العوالم، وملك لأمره وجميع شؤونه، ومالك لأمر الدنيا والآخرة جميعاً.
فإذا وصل بإقراره إلى هذا الإدراك، أقر له ضرورة له بالألوهية وهي المرتبة النهاية. إله الناس أي مألوههم ومعبودهم وهو ما خلقهم إليه،
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
وفي إضافة الملك إلى الناس من إشعار الاختصاص، مع أنه سبحانه ملك كل شيء، فيه ما في إضافة الرب للناس المتقدم بحثه، فهو سبحانه ملك الملك كما في قوله:
{ { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } [آل عمران: 26].
وقوله تعالى:
{ { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } [التغابن: 1].
وقوله:
{ { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة: 107]، وقوله: { { ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } [الحشر: 23].
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالملك لا شريك له في ملكه، كما قال تعالى:
{ { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } [الإسراء: 111] فبدأ بالحمد أولاً.
ومثله قوله:
{ { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [يس: 83]، بدأ بتسبيح نفسه وتنزيهه لعموم الملك ومطلق التصرف ونفي الشريك لأن ملكه ملك تصرف وتدبير مع الكمال في الحمد والتقديس.
وكقوله:
{ { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1].
وبهذه النصوص يعلم كمال ملكه تعالى، ونقص ملك ما سواه من ملوك الدنيا، ونعلم أن ملكهم بتمليك الله تعالى إياهم كما في قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } [البقرة: 247].
وقوله:
{ { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } [آل عمران: 26].
ومن المعلوم أن ملوك الدنيا ملكهم سياسة ورعاية، لا ملك تملك وتصرف، وكما في قوله تعالى:
{ { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 247].
والجدير بالتنبيه عليه بهذه المناسبة أن "بريطانيا" تحترم نظام الملكية إلى هذا الوقت الحاضر، بدافع من هذا المعتقد، وأنه لا ملك إلا بتمليك الله إياه، وأن ملوك الدنيا باصطفاء من الله.
والآية تشير إلى ما نحن بصدد بيانه، من أن ملوك الدنيا لا يملكون أمر الرعية لأن طالوت ملكاً، وليس مالكاً لأموالهم.
بينما ملك الله تعالى ملك خلق وإيجاد وتصرف كما في قوله تعالى:
{ { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49-50].
وعليم قدير هنا من خصائصه سبحانه وتعالى، فيتصرف في ملكه بعلم وعن قدرة كاملتين سبحانه، له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير.
وتظهر حقيقة ذلك إذا جاء اليوم الحق، فيتلاشى كل ملك قلَّ أو كثر، ويذل كل ملك كبر أو صغر، ولم يبق إلا ملكه تعالى يوم هم بارزون، لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.
وفي سورة الفاتحة
{ { مَـلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4].
والقراءة الأخرى
{ { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4].
في القراءتين معاً إشعار بالفرق بين ملك الله وملك العباد، كالفرق بين الملك المطلق والملك النسبي، إذ الملك النسبي لا يملك، والملك المطلق، فهو الملك القدوس، والذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجع الخلائق كلهم.
ومن كانت هذه صفاته، فهو المستحق لأن يعبد وحده سبحانه، ولا يشرك معه أحد، وهذا هو شعار العبد في الركن الخامس من أركان الإسلام، حين يهلّ بالتلبية: إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قوله تعالى: { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ }.
هذه هي المرتبة الثالثة في كمال العبودية، وإفراد الله تعالى بالألوهية.
وهذا هو محل الإحالة، التي عناها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يظهر، لأن العبد إذا أقر بأن الله تعالى ربه وخالقه، ومنعم عليه أوجده من العدم، ورباه بالنعم، لا رب سواه، ثم تدرج بعلمه ويقينه إلى الإقرار بأن ربه هو مليكه والمتصرف في أمره وحده، وأنه لا يملك هو نفسه مع الله شيئاً، ولا يملك له أحد من الله شيئاً.
وأن كل تصرفات العالم كله بأمره فلا يصل إليه خير إلا بإذنه، ولا يصرف عنه ضرر إلا بأمره.
وعرف في يقين: أنه عبد مملوك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض، توصل بعلمه هذا أن من كانت هذه صفاته، كان هو وحده المستحق لإفراده بالعبادة وبالألوهية، لا إله إلا هو.
فيكون في خاتمة المصحف الشريف انتزاع الإقرار من العبد لله سبحانه بطريق الإلزام، بالمعنى الذي أرسل الله به رسله، وأنزل من أجله كتبه، وهو أن يعبد الله وحده، وهو ما صرح الشيخ به في الإحالة السابقة.
وإذا كان الشيخرحمه الله ، قد نبه على مراعاة خاتمة المصحف، فإنا لو رجعنا إلى أول المصحف وآخره لوجدنا ربطاً بديعاً، إذ تلك الصفات الثلاث في سورة الناس موجودة في سورة الفاتحة، فاتفقت الخاتمة مع الفاتحة في هذا المعنى العظيم، إذ في الفاتحة الحمد لله رب العالمين، وملك يوم الدين، فجاءت صفة الربوبية والملك والألوهية في لفظ الجلالة.
وتكون الخاتمة الشريفة من باب عود على بدء، وأن القرآن كله فيما بين ذلك شرح وبيان لتقدير هذا المعنى الكبير.
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في النهاية، إن شاء الله تعالى.