التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
١٥
-الرعد

أضواء البيان في تفسير القرآن

بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يسجد له أهل السموات والأرض طوعاً وكرهاً وتسجد له ظلالهم بالغدو والآصال. وذكر أيضاً سجود الظلال، وسجود أهل السموات والأرض في قوله { { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [النحل: 48 -49] إلى قوله { يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50] واختلف العلماء في المراد بسجود الظل وسجود غير المؤمنين فقال بعض العلماء سجود من في السموات والأرض من العام المخصوص فالمؤمنون والملائكة يسجدون لله سجوداً حقيقياً وهو وضع الجبهة على الأرض يفعلون ذلك طوعاً والكفار يسجدون كرهاً أعني المنافقين لأنهم كفار في الباطن ولا يسجدون لله إلا كرهاً كما قال تعالى: { وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ } [النساء: 142] الآية وقال تعالى: { { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [التوبة: 54] والدليل على أن سجود أهل السموات والأرض من العام المخصوص، قوله تعالى في سورة الحج: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } [الحج: 18]. فقوله: { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } دليل على أن بعض الناس غير داخل في السجود المذكور وهذا قول الحسن وقتادة وغيرهما وذكره الفراء وقيل الآية عامة والمراد بسجود المسلمين طوعاً انقيادهم لما يريد الله منهم طوعاً والمراد بسجود الكافرين كرهاً انقيادهم لما يريد الله منهم كرهاً لأن إرادته نافذة فيهم وهم منقادون خاضعون لصنعه فيهم ونفوذ مشيئته فيهم وأصل السجود في لغة العرب الذل والخضوع ومنه قول زيد الخيل:

يجمع فضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجداً للحوافر

ومنه قول العرب أسجد إذا طأطأ رأسه وانحنى قال حميد بن ثور:

فلما لوين على معصم وكف خضيب وأسوارها
فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها

وعلى هذا القول فالسجود لغوي لا شرعي، وهذا الخلاف المذكور جار أيضاً في سجود الضلال فقيل سجودها حقيقي والله تعالى قادر على أن يخلق لها إدراكاً تدرك به وتسجد لله سجوداً حقيقياً وقيل سجودها ميلها بقدرة الله أول النهار إلى جهة المغرب وآخره إلى جهة المشرق وادعى من قال هذا أن الظل لا حقيقة له لأنه خيال فلا يمكن منه الإدراك.
ونحن نقول: إن الله جل وعلا قادر على كل شيء فهو قادر على أن يخلق للظل إدراكاً يسجد به لله تعالى سجوداً حقيقياً والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي حمل نصوص الوحي على ظواهرها إلا بدليل من كتاب أو سنة ولا يخفى أن حاصل القولين: -
أن أحدهما: أن السجود شرعي وعليه فهو في أهل السموات والأرض من العام المخصوص:
والثاني: أن السجود لغوي بمعنى الانقياد والذل والخضوع وعليه فهو باق على عمومه والمقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إن دار بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية وهو التحقيق خلافاً لأبي حنيفة في تقديم اللغوية ولمن قال يصير اللفظ مجملاً لاحتمال هذا وذاك وعقد هذه المسألة صاحب مراقي السعود بقوله: -

واللفظ محمول على الشرعي إن يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب

وقيل المراد بسجود الكفار كرها سجود ظلالهم كرهاً وقيل الآية في المؤمنين فبعضهم يسجد طوعاً لخفة امتثال أوامر الشرع عليه وبعضهم يسجد كرهاً لثقل مشقة التكليف عليه مع أن إيمانه يحمله على تكلف ذلك والعلم عند الله تعالى:
وقوله تعالى: { بِٱلْغُدُوِّ } يحتمل أن يكون مصدراً أو يحتمل أن يكون جمع غداة والآصال جمع أصل بضمتين وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والغروب ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل