التفاسير

< >
عرض

وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ
٩٩
-الحجر

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ }.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد ربه، أي يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة بما امر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع. وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله، مع حظ النفي منها. وقد بيَّن القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد، الذي هو حظ النفي منها. وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات. قال تعالى:
{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123]، وقال { فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } [مريم: 65]، وقال: { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [النساء: 36]، وقال { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } [البقرة: 256]، وقال: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [يوسف: 106] والآيات في مثل ذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى { حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }.
قالت جماعة من أهل العلم، منهم سالم بن عبد الله بن عمر، ومجاهد، والحسن وقتادة، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم وغيرهم: اليقين: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى:
{ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } [المدثر: 43-47] وهو الموت.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت،
"عن أم العلاء (امرأة من الأنصار) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أُمُّ العلاء: رحمة الله عليك أبا السَّائب! فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟ فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله!؟ فقال: أَما هو فقد جاءه اليقين، وإِني لأَرجو له الخير.." الحديث. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت. وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقيناً. ولقد أجاد التهامي في قوله:

والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري

وقال صاحب الدر المنثور: أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" .
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أوحي إلى أن أكون تاجراً ولا أجمع المال متكاثراً، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" .
تنبيهان
الأول - هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حياً وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته. فإن لم يستطع الصلاة قائماً فليصل قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب. وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:
{ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31] وقال البخاري في صحيحه "باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب" وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه - حدثنا عبدان عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن بريدة، "عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بي بواسير، فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" اهـ ونحو هذا معلوم. قال تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]، وقال تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم..." الحديث.
التنبيه الثاني - اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين - أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف. لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلاً، بل يسمى لعباً كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفاً منه وطمعاً في رحمته. وقد قال جل وعلا:
{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28] والعلم عند الله تعالى.