التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا بدل آية مكان آية، بأن نسخ آية أو أنساها، وأتى بخير منها أو مثلها - أن الكفار يجعلون ذلك سبباً للطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم. بادعاء أنه كاذب على الله، مفتر عليه, زعماً منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء، وهو الرأي المجدد، وأن ذلك مستحيل على الله. فيفهم عندهم من ذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مفتر على الله، زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه.
والدليل على أن قوله: { بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } معناه: نسخنا آية وأنسيناها - قوله تعالى:
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [البقرة: 106]، وقوله: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعلى: 6-7] أي أن تنساه.
والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها، لا بد أن يأتي ببدل خير منها أو مثلها - قوله تعالى:
{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106]، وقوله هنا { بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ }.
وما زعمه المشركون واليهود: من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء، وهو الرأي المتجدد - ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل. لأن النسخ لا يلزمه البداء ألبتة، بل الله جل وعلا يشرِّع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة. فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة. كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء، لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح.
وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } وقوله:
{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 106]، وقوله: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } [الأعلى: 6-7] فقوله: { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } بعد قوله:{ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } يدل عى أنه أعلم بما ينزل. فهو عالم بمصلحة الإنساء، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى - لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلاً وشرعاً، ولا في وقوعه فعلاً، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني - فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد. لأن ظاهر الخطاب الأول استمرار الحكم في جميع الزمن. والخطاب الثاني دلَّ على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ. فليس النسخ عنده رفعاً للحكم الأول. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ:

رفع لحكم أو بيان الزمن بمحكم القرآن أو بالسنن

وإنما خالف فيه اليهود وبعض المشركين، زاعمين أنه يلزمه البداء كما بينا. ومن هنا قالت اليهود: إن شريعة موسى يستحيل نسخها.
المسألة الثانية - لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة. لأن الله جلَّ وعلا يقول:
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [يونس: 15] - وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع، وكذلك لا نسخ بالإجماع. لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: لأنه ما دام حياً فالعبرة بقوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، ولا حجة معه في قول الأمة، لأن اتِّباعه فرض على كل أحد ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع:

وهو الاتفاق من مجتهدي الأمة من بعد وفاة أحمد

وبعد وفاته ينقطع النسخ. لأنه تشريع، ولا تشريع ألبتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما - أشار في مراقي السعود أيضاً بقوله في النسخ:

فلم يكن بالعقل أو مجرد الإجماع بل ينمى إلى المستند

وقوله "بل ينمى إلى المستند" يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصاً منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع. لما ذكرنا من منع النسخ به شرعاً. وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق، وإليه أشار في المراقي بقوله:

ومنع نسخ النص بالقياس هو الذي ارتضاه جل الناس

أى وهو الحق.
المسألة الثالثة - اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم: من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله:

وينسخ الخف بما له ثقل وقد يجيء عاريا من البدل

أنه باطل بلا شك. والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] فلا كلام ألبتة لأحد بعد كلام الله تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [النساء: 122]، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } [النساء: 87]، { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } [البقرة: 140] فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء. ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط. فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر.
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } [المجادلة: 12] فإنه نسخ بقوله: { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } [المجادلة: 13] الآية، ولا بدل لهذا المنسوخ.
فالجواب - أن له بدلاً، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلاً من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر.
المسألة الرابعة - اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف. فمثال نسخ الأخف بالأثقل: نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى:
{ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة: 184] بأثقل منه، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185]. ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله: { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ } [النساء: 15] الآية، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله: { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتاً، وهي قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم" ومثال نسخ الأثقل بالأخف: نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله: { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [الأنفال: 65] الآية، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [الأنفال: 66] الآية. وكنسخ قوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } [البقرة: 284] الآية، بقوله: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]. فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر. وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول، المنصوص عليه في قوله: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ } [البقرة: 240] الآية، بأخف منه هو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، المنصوص عليه في قوله: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [البقرة: 234].
تنبيه
اعلم- أن في قوله جل وعلا:
{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] إشكالاً من جهتين:
الأولى - أن يقال: إما أن يكون الأثقل خيراً من الأخف. لأنه أكثر أجراً، أو الأخف خير من الأثقل لأنه أسهل منه، وأقرب إلى القدرة على الامتثال. وكون الأثقل خيراً يقتضي منع نسخه بالأخف، كما أن كون الأخف خيراً يقتضي منع نسخه بالأثقل. لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له، لا ما هو دونه. وقد عرفت: أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر.
الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله { أَوْ مِثْلِهَا } لأنه يقال: ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه؟
والجواب عن الإشكال الأول - هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيراً جداً والامتثال غير شديد الصعوبة، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم. فإن في الصوم أجراً كثيراً كما في الحديث القدسي
"إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" ، والصائمون من خيار الصابرين. لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم. والله يقول: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر. فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184]. وتارة تكون الخيرية في الأخف، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال. فإن الأخف يكون خيراً منه، لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما لا يرضي الله، وذلك كقوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } [البقرة: 284] فلو لم تنسخ المحاسبة بخطرات القلوب لكان الامتثال صعباً جداً، شاقاً على النفوس، لا يكاد يسلم من الإخلال به، إلى من سلمه الله تعالى - فلا شك أن نسخ ذلك بقوله: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق، وهكذا.
والجواب عن الإشكال الثاني - هو أن قوله
{ أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتيهما. فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون بها خيراً من المنسوخ، فيكون باعتبار ذاته مماثلاً للمنسوخ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لاتوجد في المنسوخ خيراً من المنسوخ.
وإيضاحه - أن عامة المفسرين يمثلون لقوله { أَوْ مِثْلِهَا } بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام. فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتيهما متماثلان. لأن كل واحد منهما جهة من الجهات، وهي في حقيقة أنفسها متساوية، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملاً على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيراً من المنسوخ بذلك الاعتبار. فإن استقبال بيت الله الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال بيت المقدس، منها - أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النَّبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلته! وتسقط به حجة اليهود بقولهم: تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا، وقبلتنا من ديننا! وتسقط به أيضاً حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة: أنه صلى الله عليه وسلم سوف يؤمر باستقبال بيت المقدس، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال بيت الله الحرام. فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى بيت الله الحرام، والفرض أنه لم يحول.
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدخاص هذه الحجج الباطلة بقوله:
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 150] ثم بين الحكمة بقوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } [البقرة: 150] الآية. وإسقاط هذه الحجج من الدواعي التي دعته صلى الله عليه وسلم إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام المشار إليه في قوله تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 144] الآية.
المسألة الخامسة - اعلم أن النسخ على ثلاثة أقسام:
الأول - نسخ التلاوة والحكم معاً، ومثاله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن.. " الحديث. فآية عشر رضعات منسوخة التلاوة والحكم إجماعاً.
الثاني - نسخ التلاوة وبقاء الحكم، ومثاله آية الرجم المذكورة آنفاً، وأية خمس رضعات على قول الشافعي وعائشة ومن وافقهما.
الثالث - نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ. كآية المصابرة، والعدة، والتخيير بين الصوم والإطعام، وحبس الزواني. كما ذكرنا ذلك كله آنفاً.
المسألة السادسة - اعلم انه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة. بمتواتر السنة واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد. وخلافهم في هذه المسائل معروف.
وممن قال: بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعيرحمه الله .
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر. لأن الجميع وحي من الله تعالى. فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام. فإن استقبال بيت المقدس أولاً إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله:
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة: 144] الآية. ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكماً بالسنة المتواترة. ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكماً بالسنة المتواترة. وسورة الخلع وسورة الحفد: هما القنوت في الصبح عند المالكية. وقد أوضح صاحب (الدر المنثور) وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا.
وقد قدمنا (في سورة الأنعام) أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما. لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئاً جديداً لم يكن موجوداً قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما.
فقوله تعالى:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } [الأنعام: 145] الآية.
يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية. لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك. فإذا صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح "بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة" فلا معارضة ألبتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين. لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح.
فالتحقيق إن شاء الله - هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقا لجمهور صاحب المراقي بقوله:

والنسخ بالآحاد للكتابليس بواقع على الصواب

ومن هنا تعلم - أنه لا دليل على بطلان قول من قال: إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث "لا وصية لوارث" . والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة - اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل. فإن قيل: ما الفائدة في تشريع الحكم أولاً إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله؟
فالجواب - أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال. ويوضح هذا -أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ولده، وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل. وبين أن الحكمة في ذلك: الابتلاء بقوله:
{ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 106-107] ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل: نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة، كما هو معروف. وقد أشار إلى هذه المسألة في مراقي السعود بقوله:

والنسخ من قبل وقوع الفعل جاء وقوعاً في صحيح النقل

المسألة الثامنة - اعلم أن التحقيق: أنه ما كل زيادة على النص تكون نسخاً، وإن خالف في ذلك الإمام أبو حنيفةرحمه الله . بل الزيادة على النص قسمان:
قسم مخالف النص المذكور قبله، وهذه الزيادة تكون نسخاً على التحقيق. كزيادة تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مثلاً، على المحرمات الأربعة المذكورة في آية:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [الأنعام: 145] الاية. لأن الحمر الأهلية ونحوها لم يسكت عن حكمه في الآية، بل مقتضى الحصر بالنفي والإثبات في قوله: { لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } [الأنعام: 145] الآية - صريح في إباحة الحمر الأهلية وما ذكر معها. فكون زيادة تحريمها نسخاً أمر ظاهر.
وقسم لا تكون الزيادة فيه مخالفة للنص، بل تكون زيادة شيء سكت عنه النص الأول، وهذا لا يكون نسخاً، بل بيان حكم شيء كان مسكوتاً عنه. كتغريب الزاني البكر، وكالحكم بالشاهد، واليمين في الأموال. فإن القرآن في الأول أوجب الجلد وسكت عما سواه، فزاد النَّبي حكماً كان مسكوتاً عنه، وهو التغريب. كما أن القرآن في الثاني فيه
{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } [البقرة: 282] الآية. وسكت عن حكم الشاهد واليمين، فزاد النَّبي صلى الله عليه وسلم حكماً مسكوتاً عنه. وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله:

وليس نسخاً كل ما أفادا فيما رسا بالنص إلا ازديادا

وقد قدمنا (في الأنعام) في الكلام على قوله: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } الآية.