التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة. لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السموات والأرض لا يفوته شيء أراده. وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في "آخر سورة فاطر": { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45] الأية، وقوله: { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَاب } [الكهف: 58] الآية. وأشار بقوله: { وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل. وبين ذلك في غير هذا الموضع. كقوله: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، وقوله: { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ } [العنكبوت: 53].
وبين هنا: أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله. وأوضح ذلك في مواضع أخر. كقوله:
{ { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [نوح: 4] الآية، وقوله: { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [المنافقون: 11] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم - أن قوله تعالى:
{ { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [النحل: 61] فيه وجهان للعلماء:
أحدهما - أنه خاص بالكفار لأن الذنب ذنبهم، والله يقول:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]. ومن قال هذا القول قال: { من دابة } أي كافرة. ويروى هذا عن ابن عباس. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة، وقال الآخر:

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم

وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت:

ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل بالبيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا

تنبيه
لفظة "جعل" تأتي في اللغة العربية لأربعة معان:
الأول - بمعنى اعتقد. كقوله تعالى هنا:
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } [النحل: 57] قال في الخلاصة: وجعل اللذ كاعتقد
الثاني - بمعنى صير كما تقدم في الحجر. كقوله:
{ { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [نوح: 16]. قال في الخلاصة:

.. والتي كصيرا وأيضاً بها انصب مبتدأ وخبرا

الثالث - بمعنى خلق. كقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1] أي خلق الظلمات والنور.
الرابع - بمعنى شرع. كقوله:

وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر

قال في الخلاصة:

كأنشأ السائق يحدو وطفق كذا جعلت وأخذت وعلق

وقوله في هذه الآية الكريمة { سُبْحَانَهُ } أي تنزيها له جل وعلا عما لا يليق بكماله وجلاله، وهو ما ادعوا له من البنات سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً‍ وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره - على أن الآية عامة. حتّى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في جحره، والحبارى في وكرها، ونحو ذلك. لولا أن الله حليم لا يعجل بالعقوبة، ولا يؤاخذهم بظلمهم.
قال مقيدة عفا الله عنه: وهذا القول هو الصحيح. لما تقرر في الأصول من: أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة "من" تكون نصاً صريحاً في العموم. وعليه فقوله "من دابة" يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصاً.
وقال القرطبي في تفسيره: فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم؟ يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاء، وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا أراد الله بقومٍ عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثمَّ بُعِثُوا على أعمالهم" اهـ محل الغرض منه بلفظه. والأحاديث بمثله كثيرة معروفة.
وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح، فلا إشكال في شمول الهلاك للحيوانات التي لا تعقل. وإذا أراد الله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم. لأن الهلاك إذا نزل عم.
تنبيه
قوله: { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } الضمير في { عليها } راجع إلى غير مذكور وهو الأرض. لأن قوله { من دابة } يدل عليه، لأن من المعلوم: أن الدواب إنما تدب على الأرض. ونظيره قوله تعالى:
{ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45]، وقوله: { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] أي الشمس ولم يجر لها ذكر، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العرب ومنه قول حميد بن ثور:

وصهباء منها كالسفينة نضجت به الحمل حتى زاد شهراً عديدها

فقوله "صهباء منها" أي من الإبل، وتدل له قرينة "كالسفينة" مع أن الإبل لم يجر لها ذكر، ومنه أيضاً قول حاتم الطائي:

أماوى ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقوله "حشرجت وضاق بها" يعني النفس، ولم يجر لها ذكر. كما تدل له قرينة "وضاق بها الصدر". ومنه أيضاً قول لبيد في معلقته:

حتى إذا ألقت يداً في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها

فقوله "ألقت" أي الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولكن يدل له قوله:

وأجن عوات الثغور ظلامها

لأن قوله: "ألقت يداً في كافر" أي دخلت في الظلام. ومنه أيضاً قول طرفة في معلقته:

على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها وأفتدي

فقوله: "أفديك منها" أي الفلاة، ولم يجر لها ذكر، ولكن قرينة سياق الكلام تدل عليها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { يؤاخذ } الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد. فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم: أخذهم بذنوبهم. لأن المفاعلة تقتضي الطرفين. ومجيئها بمعنى المجرد مسموع نحو: سافر وعافى. وقوله { يؤاخذ } إن قلنا إن المضارع فيه بمعنى الماضي فلا إشكال. وإن قلنا: إنه بمعنى الاستقبال فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل. كقوله:
{ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } [النساء: 9]، وقول قيس بن الملوح:

ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن دون رمسينا من الأرض سيسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب

والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر، ولا يمكن بتاتاً في البيتين، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله:

لو حرف شرط في مضي ويقل إيلاؤها مستقبلاً لكن قبل