التفاسير

< >
عرض

وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
-النحل

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً }.
جمهور العلماء على أن المراد بالسكر في هذه الآية الكريمة: الخمر، لأن العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر، من إطلاق المصدر وإرادة الاسم. والعرب تقول: سكر "بالكسر" سكراً "بفتحتين" وسكراً "بضم فسكون".
وقال الزمخشري في الكشاف: والسكر: الخمر. سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً، نحو رشد رشداً ورشداً. قال:

وجاءونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي - أهـ

ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر:

بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر

وممن قال: بأن السكر في الآية الخمر: ابن عباس، و ابن مسعود، وابن عمر، وأبو رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، والكلبي، وابن جبير، وأبو ثور، وغيرهم. وقيل: السكر: الخل. وقيل الطعم وقيل: العصير الحلو.
وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها - فاعلم أن هذه الآية مكية، نزلت بعدها آيات مدنية بينت تحريم الخمر، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر.
الأولى - آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها، ولم يجزم فيها بالتحريم، وهي قوله تعالى:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [البقرة: 219] وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها، وشربها آخرون للمنافع التي فيها.
الثانية - آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر، وهي قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } [النساء: 43] الآية.
الثالثة - آية المائدة الدالة على تحريمها تحريماً باتاً، وهي قوله تعالى:
{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90] إلى قوله - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91].
وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها. لأنه تعالى صرح بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها أمراً جازماً في قوله { فاجتنبوه } واجتناب الشيء: هو التباعد عنه، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه. وعلق رجاء الفلاح على اجتنابها في قوله: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ويفهم منه - أنه من لم يجتنبها لم يفلح، وهو كذلك.
ثم بين بعض مفاسدها بقوله:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ } [المائدة: 91]. ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فهو أبلغ في الزجر من صيغة الأمر التي هي "انتهوا" وقد تقرر في فن المعاني: أن من معاني صيغة الاستفهام التي ترد لها الأمر. كقول: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }، وقوله: { { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ> } [آل عمران: 20] الآية. أي أسلموا. والجار والمجرور في قوله: { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ } [النحل: 67] الآية - يتعلق بـ { تّتَّخِذُونَ } وكرر لفظ "من" للتأكيد، وأفرد الضمير في قوله { منه } مراعاة للمذكور. اي تتخذون منه، أي مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب. ونظيره قول رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

فقوله "كأنه" أي ما ذكر من خطوط السواد والبلق. وقيل: الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه. أي ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه، أي عصير الثمرات المذكورة وقيل: قوله { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ } معطوف على قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [النحل: 66] أي نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل. وقيل: يتعلق بـ { نُّسقِيكُم } [النحل: 66] محذوفة دلت عليها الأولى. فيكون من عطف الجمل. وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على "الأنعام" وهو أضعفها عندي.
وقال الطبري: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكراً. فحذف "ما".
قال أبو حيان (في البحر): وهو لا يجوز على مذهب البصريين. وقيل: يجوز أن، يكون صفة موصوف محذوف، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه. ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:

مالك عندي غير سوط وحجر وغير كبداء شديدة الوتر
جادت بكفي كان من أرمى البشر

أي بكفي رجل كان "الخ" ذكر الزمخشري وأبو حيان.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر هذه الأقوال عندي: أن قوله: { وَمِن ثَمَرَاتِ } يتعلق بـ { تتَّخذون } أي تتخذون من ثمرات النخيل، وأن "من" الثانية توكيد للأولى. والضمير في قوله { مِنْهُ } عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم - أن التحقيق على مذهب الجمهور: أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله جل وعلا: { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ } [النحل:67] منسوخة بآية المائدة المذكورة. فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه وفي شرحه (نشر البنود) من أن تحريم الخمر ليس نسخاً لإباحتها الأولى بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، وهي ليست من الأحكام الشرعية. فرفعها ليس بنسخ. وقد بين في المراقي: أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله: -

وما من البراءة الأصليةقد أخذت فليست الشرعية

وقال أيضاً في إباحة الخمر قبل التحريم: -

أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام

كل ذلك ليس بظاهر، بل غير صحيح. لأن إباحة الخمر قبل التحريم دلت عليها هذه الآية الكريمة، التي هي قوله: { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً }. الآية، وما دلت على إباحته آية من كتاب الله لا يصح أن يقال: إن إباحته عقلية، بل هي إباحة شرعية منصوصة في كتاب الله، فرفعها نسخ. نعم! على القول بأن معنى السكر في الآية: الخل أو الطعم أو العصير. فتحريم الخمر ليس نسخاً لإباحتها، وإباحتها الأولى عقلية. وقد بينا هذا المبحث في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).
فإن قيل: الآية واردة بصيغة الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول:
فالجواب - أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر، والإباحة حكم شرعي كسائر الأحكام قابل للنسخ. فليس النسخ وارداً على نفس الخبر، بل على الإباحة المفهومة من الخبر. كما حققه ابن العربي المالكي وغيره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَرِزْقاً حَسَناً } أي التمر والرطب والعنب والزبيب، والعصير ونحو ذلك.
تنبيه آخر
اعلم - أن النَّبيذ الذي يسكر منه الكثير لا يجوز أن يشرب منه القليل الذي لا يسكر لقلته. وهذا مما لا شك فيه.
فمن زعم جواز شرب القليل الذي لا يسكر منه كالحنفية وغيرهم - فقط غلط غلطاً فاحشاً. لأن ما يسكر كثيره يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه مسكر، والنًّبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"كل مسكر حرام" وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" . ولو حاول الخضم أن ينازع في معنى هذه الأحاديث - فزعم أن القليل الذي لا يسكر يرتفع عنه اسم الإسكار فلا يلزم تحريمه. قلنا: صرح صلى الله عليه وسلم بأن "ما أسكر كثيره فقليله حرام" . وهذا نص صريح في محل النزاع لا يمكن معه كلام. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن. وعن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني وصححه. ولأبي داود وابن ماجه والترمذي مثله سواء من حديث جابر. وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وكذلك الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "وعن سعد بن ابي وقاص: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره" رواه النسائي والدارقطني وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أتاه قوم فقالوا: يا رسول الله، إنا ننبذ النَّبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا؟ فقال: اشربوا فكل مسكر حرام. فقالوا: يا رسول الله، إنا نكسره بالماء؟ فقال: حرام قليل ما أسكر كثيره" رواه الدارقطني.اهـ. بواسطة نقل المجد في (منتقي الأخبار).
فهذه الأحاديث لا لبس معها في تحريم قليل ما أسكر كثيره. وقال ابن حجر (في فتح الباري) في شرح قوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري:
"كل شراب أسكر فهو حرام" ما نصه: فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" . وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعاً "كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" . ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال؟: "أنهاكم عن قليل ما أسكره كثيره" وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث - إلى أن قال -: وجاء أيضاً عن علي عند الدارقطني، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني، وعن زيد بن ثابت عند الدارقطني. وفي أسانيدها مقال. لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة.
قال أبو المظفر بن السمعاني (وكان حنفياً فتحول شافعياً): ثبتت الأخبار عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر.
ثم ساق كثيراً منها: ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافها. فإنها حجج قواطع. قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب، ورووا فيه أخباراً معلولة، لا تعارض هذه الأخبار بحال. ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكراً فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير. وإنما الذي شربه كان حلواً ولم يكن مسكراً. وقد روى ثمامه بن حزن القشيري: أنه سأل عائشة عن النَّبيذ؟ فدعت جارية حبشية فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل، وأوكئه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه. أخرجه مسلم.
وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه. ثم قال: فقياس النَّبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النَّبيذ - إلى أن قال: وعلى الجملة، فالنصوص المصرح بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس. والله أعلم.
وقد قال عبد الله بن مبارك: لا يصح في حل النًّبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء ولا عن التابعين. إلا عن إبراهيم النخعي. انتهى محل الغرض من (فتح الباري) بحذف ما لا حاجة إليه.
قال مقيدة عفا الله عنه: تحريم قليل النَّبيذ الذي يسكر كثيره لا شك فيه. لما رأيت من تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن
"ما أسكر كثيره فقليله حرام" .
واعلم - أن قياس النَّبيذ المسكر كثيره على الخمر بجامع الإسكار لا يصح. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن "كل مسكر حرام" والقياس يشترط فيه ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه كحكم الأصل. كما أشار له في مراقي السعود بقوله:

وحيثما يندرج الحكمان في النص فالأمران قل سيان

وقال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اهـ.