التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
١٢
-الإسراء

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الليل والنهار آيتين. أي علامتين دالتين على أنه الرب المستحق أن يعبد وحده، ولا يشرك معه غيره. وكرر تعالى هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱللَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ } [فصلت37] الآية، وقوله: { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [يس:37] وقوله تعالى: { إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس:6]، وقوله { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران:190]، وقوله: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } [البقرة:164] - إلى قوله - { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة:164]، وقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [المؤمنون:80]، وقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان:62]، وقوله: { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } [الزمر:5]، وقوله: { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [الأنعام:96]، وقوله { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [الشمس:1-4] الآية، وقوله: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [الليل:1-2] الآية، وقوله: { وَٱلضُّحَىٰ وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى:1-2] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [الإسراء:12] يعني أنه جعل الليل مظلماً مناسباً للهدوء والراحة، والنهار مضيئاً مناسباً للحركة والاشتغال بالمعاش في الدنيا. فيسعون في معاشهم، في النهار، ويستريحون من تعب العمل بالليل. ولو كان الزمن كله ليلاً لصعب عليهم العمل في معاشهم، ولو كان كله نهاراً لأهلكهم التعب من دوام العمل.
فكما أن الليل والنهار آيتان من آياته جلَّ وعلا، فهما أيضاً نعمتان من نعمه جلَّ وعلا.
وبين هذا المعنى المشار إليه هنا في مواضع أخر، كقوله:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص:71-73].
فقوله: { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في الليل. وقوله: { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في النهار وقوله:
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ:9-11] الآية، وقوله: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } [الفرقان:47] وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } [الروم:23] الآية، وقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [الأنعام:60]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [الإسراء:12] بين فيه نعمة أخرى على خلقه، وهي معرفتهم عدد السنين والحساب. لأنهم باختلاف الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والشهور والأعوام، ويعرفون بذلك يوم الجمعة ليصلوا فيه صلاة الجمعة، ويعرفون شهر الصوم، وأشهر الحج، ويعلمون مضي أشهر العدة لمن تعتد بالأشهر المشار إليها في قوله:
{ وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ } [الطلاق:4]، وقوله { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } { البقرة:234]. ويعرفون مضي الآجال المضروبة للديون والإجارات، ونحو ذلك.
وبين جلَّ وعلا هذه الحكمة في مواضع أخر، كقوله:
{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [يونس:5]. وقوله جلَّ وعلا: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [البقرة:189]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء:12] فيه وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما - أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير: وجعلنا نيرى الليل والنهار، أي الشمس والقمر آيتين.
وعلى هذا القول - فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس. والمحو الطمس. وعلى هذا القول - فمحو آية الليل قيل معناه السواد الذي في القمر. وبهذا قال علي رضي الله عنه، ومجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: معنى { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ } [الإسراء:12] أي لم نجعل في القمر شعاعاً كشعاع الشمس ترى به الأشياء رؤية بينة. فنقص نور القمر عن نور الشمس هو معنى الطمس على هذا القول.
وهذا أظهر عندي لمقابلته تعالى له بقوله: { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء:12] والقول بأن معنى محو آية الليل: السواد الذي في القمر ليس بظاهر عندي وإن قال به بعض الصحابة الكرام، وبعض أجلاء أهل العلم!
وقوله: { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ } على التفسير المذكور أي الشمس { مُبْصِرَةً } أي ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء على حقيقته.
قال الكسائي: هو من قول العرب: أبصر النهار: إذا أضاء وصار بحالة يبصر بها - نقله عنه القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا التفسير من قبيل قولهم: نهاره صائم، وليله قائم. ومنه قوله:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرىونمت وما ليل المحب بنائم

وغاية ما في الوجه المذكور من التفسير: حذف مضاف، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب إن دلت عليه قرينة. قال في الخلاصة:

وما يلي المضاف يأتي خلفاعنه في الإعراب إذا ما حذفا

والقرينة في الآية الكريمة الدالة على المضاف المحذوف قوله: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء:12] فإضافة الآية إلى الليل والنهار دليل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما أنفسهما. وحذف المضاف كثيرة في القرآن كقوله: { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } [يوسف:82]، وقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ } [النساء:23] أي نكاحها وقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [المائدة:3] أي أكلها، ونحو ذلك.
وعلى القول بتقدير المضاف، وأن المراد بالآيتين الشمس والقمر - فالآيات الموضحة لكون الشمس والقمر آيتين تقدمت موضحة في سورة النحل.
الوجه الثاني من التفسير - أن الآية الكريمة ليس فيها مضاف محذوف، وأن المراد بالآيتين نفس الليل والنهار، لا الشمس والقمر.
وعلى هذا القول فإضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، تنزيلاً لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى. وإضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. فمنه في القرآن قوله تعالى:
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة:185] الآية، ورمضان هو نفس الشهر بعينه على التحقيق، وقوله: { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } [يوسف:109] الآية، والدار هي الآخرة بعينها. بدليل قوله في موضع آخر: { وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } [الأنعام:32] بالتعريف، والآخرة نعت للدار. وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق:16] والحبل هو الوريد، وقوله: { وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ } [فاطر:43] الآية، والمكر هو السيء بدليل قوله { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر:43].
ومن أمثلته في كلام العرب قول امرىء القيس:

كبكر المقاناة البياض بصفرةغذاها نمير الماء غير المحلل

لأن المقاناة هي البكر بعينها، وقول عنترة في معلقته:

ومشك سابغة هتكت فروجهابالسيف عن حامي الحقيقة معلم

لأن مراده بالمشك: السابغة بعينها. بدليل قوله: هتكت فروجها. لأن الضمير عائد إلى السابغة التي عبر عنها بالمشك.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة فاطر. وبينا أن الذي يظهر لنا: أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية. لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي. لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب. وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن. وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة:

ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهماً إذا ورد

ومما يدل على ضعف التأويل المذكور قوله:

وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلا أتبع الذي ردف

لأن إيجاب إضافة العلم إلى اللقلب مع اتحادهما في المعنى إن كانا مفردين المستلزم للتأويل، ومنع الإتباع الذي لا يحتاج إلى تأويل - دليل على أن ذلك من أساليب اللغة العربية، ولو لم يكن من أساليبها لوجب تقديم ما لا يحتاج إلى تأويل على المحتاج إلى تأويل كما ترى. وعلى هذا الوجه من التفسير - فالمعنى: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. أي جعلنا الليل مَمْحُو الضوء مطموسه، مظلماً لا تستبان فيه الأشياء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو. وجعلنا النهار مبصراً. أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا } [الإسراء:12] تقدم إيضاحه، والآيات الدالة عليه في سورة "النحل" في الكلام على قوله تعالى:
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [النحل:89] الآية.