التفاسير

< >
عرض

مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
-الإسراء

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا }.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من اهتدى فعمل بما يرضي الله جلَّ وعلا، أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي يسخط ربه جلَّ وعلا، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه. لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة، فيخلد به في النار.
وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله:
{ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت:46] الآية، وقوله: { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [الروم:40]، وقوله: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [الأنعام:104]، وقوله: { فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } [يونس:108]. والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد قدمنا طرفاً منها في سورة "النحل".
قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا تحمل نفس ذنب أخرى. بل لا تحمل نفس إلا ذنبها. فقوله { ولا تزر } أي لا تحمل، من وزريزر إذا حمل. ومنه سمي وزير السلطان، لأنه يحمل أعباء تدبير شؤون الدولة. والوزر: الإثم. يقال: وزر يزر وزرا، إذا أثم. والوزر أيضاً: الثقل المثقل، أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة وزر نفس أخرى. أي إثمها، أو حملها الثقيل. بل لا تحمل إلا وزر نفسها.
وهذا المعنى جاء في آيات أخر. كقوله:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [فاطر:18]، وقوله: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } [الأنعام:164] الآية، وقوله: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة:134]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة "النحل" بإيضاح: أن هذه الآيات لا يعارضها قوله تعالى:
{ { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت:13] الآية، ولا قوله: { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل:25] لأن المراد بذلك أنهم حملوا أوزار ضلالهم في أنفسهم، وأوزار إضلالهم غيرهم. لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً - كما تقدم مستوفى.
تنبيه
يرد على هذه الآية الكريمة سؤالان:
الأول - ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من"أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره. إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره؟
السؤال الثاني -إيجاب دية الخطأ على العاقلة. فيقال: ما وجه إلزام العاقلة الدية بجناية إنسان آخر؟.
والجواب عن الأول - هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين:
الأول - أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه. كما قال طرفة بن العبد في معلقته:

إذا مت فانعيني بما أنا أهلهوشقي على الجيب يابنة معبد

لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه: فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر. وذلك من فعله لا فعل غيره.
الثاني - أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه. لأن إهماله نهيهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى:
{ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم:6] فتعذيبه إذا بسبب تفريطه، وتركه ما أمر الله به من قوله: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } الآية - وهذا ظاهر كما ترى.
وعن الثاني - بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزر القاتل، ولكنها مواساة محضة أوجبها الله على عاقلة الجاني. لأن الجاني لم يقصد سوءاً، ولا إثم عليه ألبتة - فأوجب الله في جنايته خطأ الدية بخطاب الوضع، وأوجب المواساة فيها على العاقلة. ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه مواساة بعض خلقه. كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء. واعتقد من أوجب الدية على أهل ديوان القاتل خطأ كأبي حنيفة وغيره - أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل الديوان. ويؤيد هذا القول ما ذكره القرطبي في تفسيره قال: "وأجمع أهل السير والعلم: أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك. حتى جعل عمر الديوان. واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان، وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يداً، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو. انتهى كلام القرطبيرحمه الله تعالى.
قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }.
ظاهر هذه الآية الكريمة: أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة. حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.
وقد أوضح جلَّ وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى:
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء:165] فصرح في هذه الآية الكريمة: بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار.
وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين. بينها في آخر سورة طه بقوله:
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه:134].
وأشار لها في سورة القصص بقوله:
{ وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [القصص:47]، وقوله جلَّ وعلا: { ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [الأنعام:131]، وقوله: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [المائدة:19] الآية، وكقوله: { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } [الأنعام:155-157] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام - تصريحه جلَّ وعلا في آيات كثيرة: "بأنَّه لم يدخل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل. فمن ذلك قوله جلَّ وعلا:
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الملك:8-9] الآية.
ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا:
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } [الملك:8] يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في "البحر المحيط" في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه: "وكلما" تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين. ومن ذلك قوله جلَّ وعلا:
{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [الزمر:71]، وقوله في هذه الآية: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ } عام لجميع الكفار.
وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم. لعمومها في كل ما تشمله صلاتها، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم.

صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع

ومراده بالبيت: أن لفظة"كل، وجميع، والذي، والتي" وفروعهما كل ذلك من صيغ العموم. فقوله تعالى: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } إلى قوله { قالوا بلى } عام في جميع الكفار. وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا. فعصوا أمر ربهم كما هو واضح.
ونظيره أيضاً قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } [فاطر:36-37]. فقوله { والذين كفروا لهم نار جهنم } إلى قوله { وجاءكم النذير } عام أيضاً في جميع أهل النار. كما تقدم إيضاحه قريباً.
ونظير ذلك قوله تعالى:
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ قَالُوۤاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَىٰ قَالُواْ فَٱدْعُواْ وَمَا دُعَاءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [غافر:49-50]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا.
وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر. وبهذا قالت جماعة أهل العلم.
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فمن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى:
{ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء:18]، وقوله: { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [البقرة:161]، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [آل عمران:91]، وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:48]، وقوله: { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج:31]، وقوله { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ } [المائدة:72] الآية وقوله: { قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [الأعراف:50]، إلى غير ذلك من الآيات.
وظاهر جميع هذه الآيات العموم. لأنها لم تخصص كافراً دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار.
ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون في كفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس:
" أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، أَين أبي؟. قال: في النَّار فلما قفى دعاه فقال: إنَّ أَبي وأباك في النَّار" اهـ وقال مسلمرحمه الله في صحيحه أيضاً: حدثنا يَحْيَى بن أيوب، ومحمد بن عباد - واللفظ ليحيى - قالا: حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد يعني ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا: حدثنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النَّبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى واّبكى من حوله. فقال: "استأذنته ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذتنه في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموت" اهـ إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة.
وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول - هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم. أو معذورون بالفترة؟ وعقده في "مراقي السعود" بقوله:

ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع

وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار: النووي في شرح مسلم، وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع. كما نقله عنه صاحب "نشر البنود".
وأجاب أهل هذا القول عن قوله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15] من أربعة أوجه:
الأول - أن التعذيب المنفى في قوله { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ } الآية، وأمثالها من الآيات. إنما هو التعذيب الدنيوي, كما وقع في الدنيا من العذاب بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى وأمثالهم. وإذا فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة.
ونسب هذا القول القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور.
والوجه الثاني - أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ } [الإسراء:15] الآية وأمثالها في غير الواضح الذي لا يخفى على أدنى عاقل. أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد. لأن الكفار يقرون بأن الله هو ربهم، الخالق الرازق، النافع، الضار. ويتحققون كل التحقق أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر. كما قال عن قوم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:
{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } [الأنبياء:65] وكما جاءت الآيات القرآنية بكثرة بأنهم وقت الشدائد يخلصون الدعاء لله وحده. لعلمهم أن غيره لا ينفع ولا يضر. كقوله { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت:65] الآية، وقوله: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [لقمان:32] الآية، وقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء:67] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. ولكن الكفار غالطوا أنفسهم لشدة تعصبهم لأوثانهم - فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله. مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.
الوجه الثالث أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كإبراهيم وغيره. وأن الحجة قائمة عليهم بذلك. وجزم بهذا النووي في شرح مسلم، ومال إليه العبادي في (الآيات البينات).
الوجه الرابع - ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، الدالة على أن بعض أهل الفترة في النار. كما قدمنا بعض الأحاديث الواردة بذلك في صحيح مسلم وغيره.
وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة -فأجابوا عن الوجه الأول، وهو كون التعذيب في قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15] إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي من وجهين:
الأول - أنه خلاف ظاهر القرآن. لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقاً، فهو أعم من كونه في الدنيا. وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
الوجه الثاني - أن القرآن دل في أيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة. كقوله:
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَىٰ } [الملك:8-9] وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلى بعد إنذار الرسل. كما تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية.
وأجابوا عن الوجه الثاني - وهو أن محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد - بنفس الجوابين المذكورين آنفاً. لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالف لظاهر القرآن، فلا بد له من دليل يجب الرجوع إليه، ولأن الله نص على أن أهل النار ما عذبوا بها حتى كذبوا الرسل في دار الدنيا، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح، كما تقدم إيضاحه.
وأجابوا عن الوجه الثالث الذي جزم به النووي، وما إليه العبادي وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم بأنه قول باطل بلا شك، لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه، لأن مقتضاه أنهم أنذروا على ألسنة بعض الرسل والقرآن ينفي هذا نفياً باتاً في آيات كثيرة. كقوله في "يس"
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس:6] و"مَا" في قوله { مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } نافية على التحقيق، لا موصولة، وتدل لذلك الفاء في قوله { فَهُمْ غَافِلُونَ }، وكقوله في "القصص": { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [القصص:46] الآية، وكقوله في "سبأ" { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } [سبأ:44]، وكقوله في "ألم السجدة": { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [السجدة:3] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وأجابوا عن الوجه الرابع - بأن تلك الأحاديث الواردة في صحيح مسلم وغيره أخبار آحاد يقدم عليها القاطع، وهو قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15]، وقوله:
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَىٰ } [الملك:8-9]، ونحو ذلك من الآيات.
وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضاً عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم كقوله:
{ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء:18]، إلى آخر ما تقدم من الآيات - بأن محل ذلك فيما إذا أرسلت إليهم الرسل فكذبوهم بدليل قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15].
وأجاب القائلون بتعذيب عبدة الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم: إن القاطع الذي هو قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين - بأن الآية عامة، والحديثين كلاهما خاص في شخص معين. والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص. لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفةرحمه الله ، كما بيناه في غير هذا الموضع.
فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلاً في العموم. كما تقرر في الأصول.
وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمة العام. لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف. وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأن ذلك الإنصاف الكامل، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب. فلو عذب إنساناً واحداً من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها. كما بينه بقوله:
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء:165] الآية، وقوله: { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه:134] كما تقدم إيضاحه.
وأجاب المخالفون عن هذا - بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها. فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول، بـ "النقض" تخصيص للعله، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام. أي قصره على بعض أفراده بدليل. والخلاف في النقص هل هو إبطال للعلة، أو تخصيص لها معروف في الأصول، وعقد الأقوال في ذلك صاحب "مراقي السعود" بقوله في مبحث القوادح:

منها وجود الوصف دون الحكمسماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم تكن منصوصة بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر
إن جا لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع

فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض: هل هو تخصيص، أو إبطال للعلة، مع التفاصيل التي ذكرها في الأقوال المذكورة.
واختار بعض المحققين من أهل الأصول: أن تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة، وإلا فهو نقض وإبطال لها. فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعاً.
فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعاً من تاثير العلة في الحكم - فلا يقال هذه العلة منقوضة. لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة، بل هي علة منع من تاثيرها مانع. فيخصص تاثيرها بما لم يمنع منه مانع.
وكذلك من زوج أمته من رجل، وغيره فزعم له أنهاحرة فولد منها. فإن الولد يكون حراً، مع أن رق الأم علة لرق الولد إجماعاً. لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها. لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في الحكم الذي هو رق الولد.
وكذلك الزنى: فإنه علم للرجم إجماعاً.
فإذا تخلف شرط تأثير هذه العلة التي هي الزنى في هذا الحكم الذي هو الرجم، ونعني بذلك الشرط الإحصان. فلا يقال إنها علة منقوضة، بل هي علة تخلف شرط تاثيرها. وأمثال هذا كثيرة جداً. هكذا قاله بعض المحققين.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر: أن آية "الحشر" دليل على أن النقض تخصيص للعلة مطلقاً، والله تعالى أعلم. ونعني بآية "الحشر" قوله تعالى في بني النضير:
{ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } [الحشر:3].
ثم بين جل وعلا علة هذا العقاب بقوله:
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الحشر:4] الآية. وقد يوجد بعض من شاق الله ورسوله، ولم يعذب بمثل العذاب الذي عذب به بنو النضير، مع الاشتراك في العلة التي هي مشاقة الله ورسوله.
فدل ذلك على أن تخلف الحكم عن العلة في بعض الصور تخصيص للعلة لا نقض لها. والعلم عند الله تعالى.
أما مثل بيع التمر اليابس بالرطب في مسألة بيع العرايا فهو تخصيص للعلة إجماعاً لا نقض لها. كما أشار له في الأبيات بقوله:

والوفق في مثل العرايا قد وقع

قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها. فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا. لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:
الأول - أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نص في محل النزاع. فلا وجه للنزاع ألبتة مع ذلك.
قال الحافظ ابن كثيررحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن - ما نصه:
والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء، فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار. كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال، وقد قال تعالى:
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } [القلم:42] الآية.
وقد ثبت في الصحاح وغيرها: "أن المؤمنون يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه". وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها: "أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه الا يسال غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك منه، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم، ما أعذرك! ثم يأذن له في دخول الجنة" وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث. "فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، و:كأجاويد الخيل والركاب. ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوس على وجهه في النار" وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظم!
وأيضاً - فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإن يكون عليه برداً وسلاماً. فهذا نظير ذلك.
وأيضاً - فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم. فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهو في عماية غمامة أرسلها الله عليهم. وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل. وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير بلفظه.
وقال ابن كثيررحمه الله تعالى أيضاً قبل هذا الكلام بقليل ما نصه:
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر. فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة. ومن عصى دخل النار داخراً، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة.
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض.
وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب (الاعتقاد } وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثيررحمه الله تعالى، وهو واضح جداً فيما ذكرنا.
الأمر الثاني - أن الجمع بين الأدلة واجب متى أمكن بلا خلاف. لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان. فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى.
ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البررحمه الله تعالى: إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل -لا يصح ان ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. كما أوضحنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).