التفاسير

< >
عرض

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً
٣٧
لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً
٣٨
-الكهف

أضواء البيان في تفسير القرآن

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلاً للمؤمنين، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلاً لذوي المال والجاه من الكفار، منكراً عليه كفره - أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة، ثم تسويته إياه رجلاً، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، وجعله بشراً سويا، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود. وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر، كقوله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28]، وقوله تعالى: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 22] وقوله تعالى: { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 75-81] الآية، وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 26-27] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا كثيراً من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره - أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات، ويظهرها من العدم إلى الوجود بما أغنى عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } معنى خلقه إياه من تراب، أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب، كما قال تعالى:
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59] الآية. ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الحج: 5] الآية.
وقوله: { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي بعد أن خلق آدم من التراب، وخلق حواء من ضلعه، وجعلها زوجاً له - كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل. فبعد طور التراب طور النطفة، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله
{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [نوح: 14]، وقوله تعالى: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6] وقد أوضحها تعالى إيضاحاً تاماً في قوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 12-14].
ومما يبين خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، قوله تعالى في "السجدة":
{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [السجدة: 7-9]. وقوله في هذه الآية: { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } كقوله { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [النحل: 4]، وقوله: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } [يس: 77] أي بعد أن كان نطفة سار إنساناً خصيماً شديد الخصومة في توحيد ربه. وقوله { سواك } أي خلقك مستوي الأجزاء، معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء في أكمل صورة، وأحسن تقويم. كقوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]، وقوله: { وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } [غافر: 64]، وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِيۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار: 8]، وقوله "رجلاً" أي ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وربما قالت العرب للمرأة: رجلة، ومنه قول الشاعر:

كل جار ظل مغتبطاً غير جيران بني جبلة
مزقوا ثوب فتاتهم لم يراعوا حرمة الرجلة

وانتصاب "رجلاً" على الحال. وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلاً. وقيل: هو تمييز. وليس بظاهر عندي، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله { أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } مضمن معنى الاستبعاد، لأنه يستبعد جداً كفر المخلوق بخالقه، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، ويستبعد إنكار البعث ممن علم الله أن الله خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم سواه رجلاً. كقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الحج: 5] الآية. ونظير الآية في الدلالة على الاستبعاد لوجود موجبه قول الشاعر:

ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها

لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { لَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر: أنت كافر! لكن أنا لست بكافر! بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني. أي لأنه هو الذي يستحق مني أن أعبده، لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني. ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في "يس" في قوله تعالى:
{ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [يس: 22] أي أبدعني وخلقني وإليه ترجعون. وما قدمنا عن إبراهيم في قوله: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 77-78] الآية، وقوله: { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف: 26-27] الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } [الكهف: 37] بعد قوله:
{ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } [الكهف: 36] يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى. وقد صرح بذلك في أول سورة "الرعد" في قوله تعالى: { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } [الرعد: 5].
وقوله في هذه الآية الكريمة: { لكنا } أصله "لكن أنا" فحذفت همزة "أنا" وأدغمت نون "لكن" في نون "أنا" بعد حذف الهمزة. وقال بعضهم: نقلت حركة الهمزة إلى نون "لكن" فسقطت الهمزة بنقل حركتها، ثم أدغمت النون في النون! ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنا إياك لم أقل

أي لكن أنا إياك لم أقل. وقال بعضهم: لا يتعين في البيت ما ذكر. لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم "لكن" كقول الآخر:

فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر

أي لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع. وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من "لكن أنا" قول الآخر:

لهنك من عبسية لوسمية على منوات كاذب من يقولها

قال: أراد بقوله "لهنك" لله إنك. فحذف إحدى اللامين من "لله"، وحذف الهمزة من "إنك" نقله القرطبي عن أبي عبيد.
وقوله تعالى: { لَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي }.
قرأه جماهير القراء في الوصل "لكن" بغير ألف بعد النون المشددة. وقرأه ابن عامر من السبعة "لكنا" بالألف في الوصل. ويروى ذلك عن عاصم، ورواه المسيلي عن نافع، ورويس عن يعقوب. واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف. ومد نون "أنا" لغة تميم إن كان بعدها همزة. وقال أبو حيان في البحر: إن إثبات ألف "أنا" مطلقاً في الوصل لغة بني تميم، وغيرها يثبتونها على الاضطرار. قال: فجاءت قراءة "لكنا" بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم. ومن شواهد مد "أنا" قبل غير الهمزة قول الشاعر:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

وقول الأعشى:

فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا

وقوله في هذه الآية الكريمة: { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [الكهف: 34] جملة حالية. والمحاورة: المراجعة في الكلام: ومنه قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [المجادلة: 1]، وقول عنترة في معلقته:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الجواب مكلمي

وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائهما، ومن أي الناس هما - أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقاً من عدم الفائدة فيه، وعدم الدليل المقنع عليه. والعلم عند الله تعالى.