التفاسير

< >
عرض

وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً
٥٢
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

قال ابن جرير الطبريرحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: يقول تعالى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الجبل. ويعني بالأيمن يمين موسى. لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال: قام عن يمين القبلة وعن شمالها، وهذه القصة جاءت مبينة في مواضع متعددة من كتاب الله تعالى. وذلك أن موسى لما قضى الأجل الذي بينه وبين صهره، وسار بأهله راجعاً من مدين إلى مصر آنس من جانب الطور ناراً، فذهب إلى تلك النار ليجد عندها من يدله على الطريق، وليأتي بجذوة منها ليوقد بها النار لأهله ليصطلوا بها. فناداه الله وأرسله إلى فرعون، وشفعه في أخيه هارون فأرسله معه، وأراه في ذلك الوقت معجزة العصا واليد ليستأنس بذلك قبل حضوره عند فرعون. لأنه لما رأى العصا في المرة الأولى صارت ثعباناً ولى مدبراً ولم يعقب. فلو فعل ذلك عندما انقلبت ثعباناً لما طالبه فرعون وقومه بآية لكان غير ذلك لائق، ولأجل هذا مرن عليها في أول مرة ليكون مستأنساً غير خائف منها حين تصير ثعباناً مبيناً قال تعالى في سورة "طه": { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه 9-14]، وقوله: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ } هو معنى قوله في "طه": { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّك }.
وقوله { بقبس } أي شهاب. بدليل قوله في "النمل":
{ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ } [النمل: 7] وذلك هو المراد بالجذوة في قوله: { أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ } [القصص:29]، وقوله: { أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } [طه: 10] أي من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. لأنهم كانوا ضلوا الطريق، والزمن زمن برد، وقوله: { آنَسْتُ نَاراً } [طه: 10] أي أبصرتها. وقوله: { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه: 12] قال بعض العلماء: لأنهما كانتا من جلد حمار غير ذكي، ويروى هذا عن كعب وعكرمة وقتادة، نقله عنهم القرطبي وغيره. وروي أيضاً عن علي والحسن والزهري كما رواه عنهم صاحب الدر المنثور، ونقله ابن كثير عن علي وأبي أيوب وغير واحد من السلف. ويروى هذا القول عن غير من ذكر. وجاء فيه حديث مرفوع من حديث عبد الله بن مسعود رواه الترمذي وغيره ولا يصح. وفيه أقوال أخر للعلماء غير ذلك. وأظهرها عندي والله تعالى أعلم: أن الله امره بخلع نعليه أي نزعهما من قدميه ليعلمه التواضع لربه حين ناداه، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم، يستوجب من العبد كمال التواضع والخضوع. والله تعالى أعلم. وقول من قال: إنه أمر بخلعهما احتراماً للبقعة يدل له أنه أتبع أمره بخلعهما بقوله: { إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه: 12] وقد تقرر في (مسك الإيماء والتنبيه): أن "إن" من حروف التعليل. وأظهر الأقوال في قوله "طوى": أنه اسم للوادي، فهو بدل من الوادي أو عطف بيان. وفيه أقوال أخر غير ذلك. وقوله: { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } [طه: 13] أي اصطفيتك برسالتي، كقوله: { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [الأعراف: 144] ومعنى الاستعلاء في قوله: { عَلَى ٱلنَّارِ } [طه: 10] أن المصطلين بالنار يستعلون المكان القريب منها. ونظير ذلك من كلام العرب قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
قال تعالى في سورة "النمل":
{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [النمل: 6-9] فقوله في "النمل": { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ } هو معنى قوله في "مريم": { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ } [مريم: 52]. وقوله في "طه": { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ } [طه:11] الآية، وقوله: { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [النمل:7]هو معنى قوله في "طه": { أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } [طه: 10] أي من يدلني على الطريق فيخبرني عنها فآتيكم بخبره عنها. وقال تعالى في سورة "القصص": { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } [القصص: 29-30] الآية. فالنداء في هذه الآية هو المذكور في "مريم"، وطه. و"النمل" وقد بيَّن هنا أنه نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة. فدلت الآيات على أن الشجرة التي رأى فيها النار عن يمين الجبل الذي هو الطور، وفي يمين الوادي المقدس الذي هو طوى على القول بأن طوى اسم له. وقد قدمنا قول ابن جرير: أن المراد يمين موسى. لأن الجبل ومثله الوادي لا يمين له ولا شمال. وقال ابن كثير في قوله { نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ } أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب. كما قال تعالى: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [القصص: 44] فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي عن يمينه اهـ منه - وهو معنى قوله: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ } [مريم: 52] الآية، وقوله: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } [القصص: 46] الآية.
والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة - نداء الله له. فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة. إذ لا يمكن أن يقول غير الله:
{ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [النمل: 9]، ولا أن يقول: { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي } [طه: 14] ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله، كقول فرعون { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات:24] على سبيل فرض المحال- فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب.
فقوله: { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي }، وقوله:
{ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [النمل: 9] - صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك. كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام.
وقوله تعالى:
{ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } [القصص: 30] قال الزمخشري في الكشاف: "من" الأولى والثانية لابتداء الغاية. أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة و { مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } بدل من قوله { مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي } بدل اشتمال. لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء. كقوله: { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ } [الزخرف: 33].
وقال القرطبيرحمه الله في تفسير قوله تعالى: { نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ } الآية: قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء - انتهى منه. وشاطىء الوادي جانبه. وقال بعض أهل العلم: معنى "الأيمن" في قوله: { مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ }. وقوله: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ } [مريم: 52] من اليمن وهو البركة. لأن تلك البلاد بارك الله فيها. وأكثر أهل العلم على أن النار التي رآها موسى "نور" وهو يظنها ناراً. وفي قصته أنه رأى النار تشتعل فيها وهي لا تزداد إلا خضرة وحسناً. قيل هي شجرة عوسج. وقيل شجرة عليق. وقيل شجرة عناب. وقيل سمرة. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في سورة "النمل":
{ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [النمل: 8] اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ { من في النار } في هذه الآية في سورة "النمل" فقال بعضهم: هو الله جل وعلا، وممن روي عنه هذا القول: ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب قالوا: "بورك من في النار" أي تقدس الله وتعالى. وقالوا: كان نور رب العالمين في الشجرة. واستدل من قال بهذا القول بحديث أبي موسى الثابت في الصحيح: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" .
قال مقيدة عفا الله عنه: وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن. ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في النار التي في الشجرة. سواء قلنا: إنها نار أو نور، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله! وتأويل ذلك بـ { مَن فِي ٱلنَّارِ } [النمل: 8] سلطانه وقدرته لا يصح. لأن صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه لا يجوز إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم - وبه تعلم أن قول أبي حيان في "البحر المحيط": قال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم: أراد بمن في النار ذاته. وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف. أي بورك من قدرته وسلطانه في النار اهـ أنه أصاب في تنزيهه لله عن تلك العبارات، ولم يصب فيما ذكر من التأويل. والله أعلم. وقال بعضهم: إن معنى { بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ } أي بوركت النار لأنها نور. وبعده عن ظاهر القرآن واضح كما ترى. وقال بعضهم: أن { بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ } أي بوركت الشجرة التي تتقد فيها النار. وبعده عن ظاهر القرآن أيضاً واضح كما ترى. وإطلاق لفظة "من" على الشجرة وعلى ما في النار من أمر الله غير مستقيم في لغة العرب التي نزل بها القرآن العظيم كما ترى.
وأقرب الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم - قول من قال: إن في النار التي هي نور الملائكة وحولها ملائكة وموسى. وأن معنى { أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّار } أي الملائكة الذين هم في ذلك النور ومن حولها. أي وبورك الملائكة الذين هم حولها، وبورك موسى لأنه حولها معهم. وممن يروى عنه هذا: السدي. وقال الزمخشري (في الكشاف): ومعنى أن
{ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [النمل: 8] بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت فيها، وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: { نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ } [القصص: 30] وتدل عليه قراءة أبي "أن تباركت النار ومن حولها". وعنه "بوركت النار".
وقال القرطبيرحمه الله في قوله { أّن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ }: وهذا تحية من الله لموسى، وتكرمة له كما حيَّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا إليه قال: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت. وقوله { مَن فِي ٱلنَّارِ } نائب فاعل "بورك" والعرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وباركك لك. فهي أربع لغات. قال الشاعر:

فبوركت مولوداً وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

وقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية:

ليت شعري مسافر بن أبي عمـ رو وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بورك نبع الرمان والزيتون

وقال آخر:

فبورك في بنيك وفي بنيهم إذا ذكروا ونحن لك للفداء

والآيات في هذه القصة الدالة على أنه أراه آية اليد والعصا ليتمرن على ذلك قبل حضوره عند فرعون وقومه، وأنه ولى مدبراً خوفاً منها في المرة الأولى لما صارت ثعباناً - جاءت في مواضع متعددة. كقوله تعالى في سورة "طه": { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ } [طه: 19-22]. فقوله { وَلاَ تَخَف } يدل على أنه فزع منها لما صارت ثعباناً مبيناً. كما جاء مبيناً في "النمل والقصص". وقوله في آية "طه" هذه { مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } أي من غير برص. وفيه ما يسميه البلاغيون احتراساً، وكقوله تعالى في سورة "النمل": { يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } [النمل: 9-12] الآية. وقوله في "القصص": { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [القصص: 31-32]. والبرهانان المشار إليهما بقوله { فذانك برهانان } هما اليد والعصا. فلما تمرن موسى على البرهانين المذكورين، وبلغ الرسالة هو وأخوه إلى فرعون وملئه طالبوه بآية تدل على صدقه - فجاءهم بالبرهانين المذكورين، ولم يخف من الثعبان الذي صارت العصا إياه كما قال تعالى: { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [الشعراء: 30-33] ونحوها من الآيات.
وقوله في "النمل، والقصص": { ولم يعقب } أي لم يرجع من فراره منها. يقال: عقب الفارس إذا كر بعد الفرار. ومنه قوله:

فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } أي قرَّب الله موسى في حال كونه نجياً. أي مناجياً لربه. وإتيان الفعيل بمعنى الفاعل كثير كالعقيد والجليس. وقال ابن كثيررحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: روى ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان، حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } قال: أدنى حتى سمع صريف القلم. وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم. يعنون صريف القلم بكتابة التوراة. وقال السدي { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } قال: أدخل في السماء فكلم. وعن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } قال نجيا بصدقه - اهـ محل الغرض من كلام ابن كثيررحمه الله تعالى.
وقوله تعالى في طه:
{ ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [طه: 31] أي قوني به. والأزر: القوة. وآزره: أي قواه. وقوله في القصص: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [القصص: 35] أي سنقويك به. وذلك لأن العضد هو قوام اليد، وبشدتها تشتد اليد، قال طرفة:

أبني لبيني لستمو بيد إلا يداً ليست لها عضد

وقوله { رِدْءاً } [القصص: 34] أي معيناً، لأن الردء اسم لكل ما يعان به، ويقال ردأته أي أعنته.