التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً
٨١
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً
٨٢
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله: { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] اتخذوا من دون الله آلهة أي معبوداتٍ من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله، وأنهم عبدوهم لأجل أن يكونوا لهم عزاً أي أنصاراً وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله. كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم. وكقوله تعالى عنهم: { وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] الآية. فالشفاعة عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذباً وافتراءً على الله. كما بينه بقوله تعالى: { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18].
وقوله في هذه الآية الكريمة { كلا } زجر وردع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل. أي ليس الأمر كذلك! لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزاً لكم، بل تكون بعكس ذلك. فيكون عليكم ضداً، أي أعواناً عليكم في خصومتكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم. وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذا الذي ذكرنا. كقول ابن عباس { ضداً } أي أعواناً وقول الضحاك { ضداً } أي أعداء.. وقول قتادة { ضِداً } أي قرناء في النار يلعن بعضهم بعضاً، وكقول ابن عطية { ضداً } يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيؤول بهم ذلك إلى الذل والهوان، ضد ما أملوه من العز.
وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: بينه أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله:
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5-6]، وقوله تعالى: { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 13-14] إلى غير ذلك من الآيات. وضمير الفاعل في قوله: { سيكفرون } فيه وجهان للعلماء، وكلاهما يشهد له قرآن. إلا أن لأحدهما قرينة ترجحة على الآخر.
الأول - أن واو الفاعل في قوله: { سيكفرون } راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله. أما العاقل منها فلا إشكال فيه. وأما غير العاقل بالله قادر على أن يخلق له إدراكاً يخاطب به من عبده ويكفر به بعبادته إياه. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم:
{ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص: 63]، وقوله تعالى: { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [النحل: 86] وقوله تعالى: { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [يونس: 28-29]، إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني - أن العابدين هم الذين يكفرون بعبادتهم شركاءهم وينكرونها ويدل لهذا الوجه قوله تعالى:
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23]، وقوله عنهم: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }، وقوله عنهم { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } [غافر: 74] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والقرينة المرجحة للوجه الأول - أن الضمير في قوله { وَيكُونُونَ } راجع للمعبودات. وعليه فرجوع الضمير في { يكْفُرونَ } للمعبودات أظهر. لانسجام الضمائر بعضها مع بعض.
أما على القول الثاني - فإنه يكون ضمير { يكفرون } للعابدين، وضمير { يكونون } للمعبودين، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر. والعلم عند الله تعالى.
وقول من قال من العلماء. إن { كلا } في هذه الآية متعلقة بما بعدها لا بما قبلها، وأن المعنى: كلا سيكفرون أي حقاُ سيكفرون بعبادتهم محتمل، ولكن الأول أظهر منه وأرجح، وقائله أكثر. والعلم عند الله تعالى، وفي قوله { كلا } قراءات شاذة تركنا الكلام عليها لشذوذها.
ووقوله في هذه الآية: { لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع. لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة:

ونعتوا بمصدر كثير فالتزموا الإفراد والتذكيرا

والإخبار بالمصدر يجري على حكم النعت به. وقوله { ضداً } مفرداً أيضاً أريد به الجمع. قال ابن عطية: لأنه مصدر في الأصل. حكاه عنه أبو حيان في البحر. وقال الزمخشري: الضد العون، وحد توحيد قوله عليه السلام: "هم يد على من سواهم" لاتفاق كلمتهم، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم.