التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
١١٥
-طه

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله: { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ } أي أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة. وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع، كقوله في سورة "البقرة": { { وَقُلْنَا يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [البقرة: 35] فقوله: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } هو عهده إلى آدم المذكور هنا. وقوله في "الأعراف": { وَيَا آدَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأعراف: 19].
وقوله تعالى: { فَنَسِيَ } فيه للعلماء معروفان: أحدهما - أن المراد بالنسيان الترك، فلا ينافي كون الترك عمداً. والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمداً، ومنه قوله تعالى:
{ قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [طه: 126] فالمراد في هذه الآية: الترك قصداً. وكقوله تعالى: { { فَٱلْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [الأعراف: 51]، وقوله تعالى: { { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [السجدة: 14]، وقوله تعالى: { { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [الحشر: 19]، وقوله تعالى: { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [الجاثية: 34]. وعلى هذا فمعنى قوله: { فَنَسِيَ } أي ترك الوفاء بالعهد، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده.
والوجه الثاني ـ هو أن المراد بالنسيان في الآية: النسيان الذي هو ضد الذكر، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها - غره وخدعه بذلك، حتى أنساه العهد المذكور. كما يشير إليه قوله تعالى:
{ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف: 21-22]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم ا هـ.
ولقد قال بعض الشعراء:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب

أما على القول الأول فلا إشكال في قوله: { { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] وأما على الثاني ففيه إشكال معروف. لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ }. وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك: أن آدم لم يكن معذوراً بالنسيان. وقد بينت في كتابي (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة. كقوله هنا { فَنَسِيَ } مع قوله { وَعَصَىٰ } فأسند إليه النسيان والعصيان، فدل على أنه غير معذور بالنسيان. ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ { { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال الله نعم قد فعلت. فلو كان ذلك معفواً عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع. ويستأنس لذلك بقوله: { { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة: 286] ويؤيد ذلك حديث: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . فقوله "تجاوز لي عن أمتي" يدل على الاختصاص بأمته. وليس مفهوم لقب. لأن مناط التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل. والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة. ولم يزل علماء الأمة قديماً وحديثاً يتلقونه بالقبول. ومن الأدلة على ذلك حديث طارق بن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذباباً قتلوه. فدل ذلك على أن الذي قربه مكره. لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذراً. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف: { { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [الكهف: 20] فقوله: { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } دليل على الإكراه، وقوله: { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } دليل على عدم العذر بذلك الإكراه. كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع.
واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة، كقوله تعالى:
{ { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [النساء: 92] الآية. فتحرير رقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ. والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة. كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ { { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء: 92] فجعل صوم الشهرين بدلاً من العتق عند العجز عنه. وقوله بعد ذلك { تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ } يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطأ، مع قوله: { { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } [الأحزاب: 5] وما قدمنا من حديث مسلم: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال الله نعم قد فعلت" ، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة والكفارة المذكورة. قال بعض أهل العلم: هي بسبب التقصير في التحفظ والحذر من وقوع الخطإ والنسيان، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:
{ { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ. لأنهم يتداركونها بالتوبة والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن.
واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ. واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافاً مشهوراً معروفاً في الأصول. ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك. كما قال هنا:
{ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121] ثم أتبع ذلك بقوله: { { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 122].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم
{ { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35] وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم جميع الرسل. وعن ابن عباس وقتادة { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر. وأقوال العلماء راجعة إلى هذا، والوجود في قوله: { لَمْ نَجِدْ } قال أبو حبان في البحر: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه { لَهُ عَزْماً } وأن يكون نقيض العدم. كأنه قال: وعدّ مناله عزماً ـ ا هـ منه. والأول أظهر، والله تعالى أعلم.