التفاسير

< >
عرض

فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
١٢١
-طه

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ }.
الفاء في قوله { فَأَكَلاَ } تدل على أن سبب أكلها هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله:
{ { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ } [طه: 120] أي فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة. وكذلك الفاء في قوله: { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما من الشجرة المذكورة، فكانت وسوسة الشيطان سبباً للأكل من تلك الشجرة. وكان الأكل منها سبباً لبدو سوءاتهما. وقد تقرر في الأصول في مسلك (الإيماء والتنبيه): أن الفاء تدل على التعليل كقولهم: سها فسجد، أي لعلة سهوه. وسرق فقطعت يده، أي لعلة سرقته. كما قدمناه مراراً. وكذلك قوله هنا: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ فَأَكَلاَ مِنْهَا } أي بسبب تلك الوسوسة فبدت لهما سوءاتهما، أي بسبب ذلك الأكل، ففي الآية ذكر السبب وما دلت عليه الفاء هنا كما بينا من أن وسوسة الشيطان هي سبب ما وقع من آدم وحواء جاء مبيناً في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى: { { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [البقرة: 36] فصرح بأن الشيطان هو الذي أزلهما. وفي القراءة الأخرى "فأزالهما" وأنه هو الذي أخرجهما مما كانا فيه، أي من نعيم الجنة، وقوله تعالى: { { يَابَنِيۤ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 27] الآية، وقوله: { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف: 22] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في آية "طه" هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في "الأعراف":
{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف: 22] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في آية "طه" هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في "الأعراف":
{ { فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [الأعراف: 22]، وقوله فيها. أيضاً: { { كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ } [الأعراف: 27].
وقد دلت الآيات المذكورة على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما، وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنهما انكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة. فبدت سوءاتهما أي عوراتهما. وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة، كما قال هنا: { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ }، وقال في "الأعراف":
{ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 22] الآية.
وقوله: { وَطَفِقَا } أي شرعا. فهي من أفعال الشروع، ولا يكون خبر أفعال الشروع إلا فعلاً مضارعاً غير مقترن بـ "أن" وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله:

... ... وترك أن مع ذي الشروع وجبا
كأنشأ السائق يحدو وطفق وكذا جعلت وأخذت وعلق

فمعنى قوله { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ } أي شرعا يلزقان عليهما من ورق الجنة بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما. والعرب تقول: خصف النعل يخصفها: إذا خرزها: وخصف الورق على بدنه: إذا ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة. وكثير من المفسرين يقولون: إن ورق الجنة التي طفق آدم وحواء يخصفان عليهما منه إنه ورق التين. والله تعالى أعلم.
واعلم أن الستر كان على آدم وحواء، وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه.
فقالت جماعة من أهل العلم: كان عليهما لباس من جنس الظفر. فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقى منه على رؤوس الأصابع. وقال بعض أهل العلم: كان لباسهما نوراً يستر الله به سوءاتهما. وقيل: لباس من ياقوت، إلى غير ذلك من الأقوال. وهو من الاختلاف الذي لا طائل تحته، ولا دليل على الواقع فيه كما قدمنا كثيراً من أمثلة ذلك في سورة "الكهف". وغاية ما دل عليه القرآن: أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به. فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما. ويمكن أن يكون اللباس المذكور الظفر أو النور، أو لباس التقوى، أو غير ذلك من الأقوال المذكورة فيه.
وأسند جل وعلا إبداء ما وورى عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله:
{ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } [الأعراف: 20] كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى: { { كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ } [الأعراف: 27] لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريباً. وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصاً بآدم دون حواء قوله: { { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ } [الأعراف: 20] مع أنه ذكر أن تلك الوسوسة سببت الزلة لهما معاً كما أوضحناه.
والجواب ظاهر، ,هو أنه بين في "الأعراف" أنه وسوس لحواء أيضاً مع آدم في القصة بعينها في قوله:
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ } [الأعراف: 20] فبينت آية "الأعراف" ما لم تبينه آية "طه" كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
مسألة:
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: وجوب ستر العورة، لأن قوله: { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } يدل على قبح انكشاف العورة، وأنه ينبغي بذل الجهد في سترها. قال القرطبيرحمه الله في تفسيره في سورة "الأعراف" ما نصه: وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أ وجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما
{ { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [البقرة: 35]. وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي: أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك. لأنه سترة ظاهرة، عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم ـ انتهى كلام القرطبي.
ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين. وقد دلت عليه نصوص من الكتاب والسنة، كقوله تعالى:
{ { يَابَنِيۤ آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31] الآية، وكبعثه صلى الله عليه وسلم من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع: "إلا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان". وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس. وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة "النور".
فإن قيل: لم جمع السوءات في قوله { سَوْءَاتُهُمَا } مع أنهما سوأتان فقط؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول ـ أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان: القبل والدبر، فهي أربع، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر، ودبره. وعلى هذا فلا إشكال في الجمع.
الوجه الثاني ـ أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزاءه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية، والإفراد، وأفصحها الجمع، فالإفراد، فالتثنية على الأصح، سواء كانت الإضافة لفظاً أو معنى. ومثال اللفظ: شويت رؤوس الكبشين أو رأسهما، أو رأسيهما. ومثال المعنى: قطعت من الكبشين الرؤوس، أو الرأس، أو الرأسين. فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد، نحو: على لسان داود وعيسى ابن مريم. ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى
{ { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4]، وقوله تعالى: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، ومثال الإفراد قول الشاعر:

حمامة بطن الواديين ترنمي سقاك من الغر الغوادي مطيرها

ومثال التثنية قول الراجز:

ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

وللضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظاً وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظراً إلى اللفظ، والتثنية نظراً إلى المعنى، فمن الأول قوله:

خليلي لا تهلك نفوسكما أسى فإن لهما فيما به دهيت أسى

ومن الثاني قوله:

قلوبكما يغشاهما الأمن عادة إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر

الوجه الثالث ـ ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان. قال في مراقي السعود:

أقل معنى الجمع في المشتهر الاثنان في رأي الإمام الحميري

وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه، أي كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقاً للفراء، كقولك: ما أخرجكما من بيوتكما، وإذا أويتما إلى مضاجعكما، وضرباه بأسيافهما، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما، ونحو ذلك.
وقوله تعالى: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ }.
المعصية خلاف الطاعة. فقوله { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ } أي لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه مِن قُربان تلك الشجرة.
وقوله: { فَغَوَىٰ } الغي: الضلال، وهو الذهاب عن طريق الصواب. فمعنى الآية: لم يُطِع آدمُ ربَّه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة، وهذا العصيان والغي بيَّن الله جل وعلا في غير موضع مِن كتابه أن المراد به: أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته مِن الجنة رَغَداً حيثُ شاءَا، ونهاهما أن يَقرَبا شجرة مُعينة من شجرها. فلم يزل الشيطان يُوسوس لهما ويَحْلِف لهما بالله إنه لهما نَاصِح، وإِنَّهما إِنْ أكلا منهما نالا الخُلود والملْك الذي لا يَبْلى. فخدعهما بذلك كما نصّ الله على ذلك في قوله:
{ { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [الأعراف: 21] { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف: 22] فأكلا منها. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادَعَنا بالله خَدَعنا. وهو مَروي عن عُمر. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والحاكم: "المؤمن غِرُّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم" . وأنشد لذلك نفطويه:

إن الكريم إذا تَشاء خَدَعْتَه وترى اللئيم مجرباً لا يُخْدع

فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدَرَتْ منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له. وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: إن آدم مِن شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يَحْلِف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بِالله العَهْد بالنهي عن الشجرة. وقول بعض أهل العلم: إن معنى قوله: { فَغَوَىٰ } أي فسد عليه عيشه بِنُزوله إلى الدنيا.
قالوا: والغي. الفساد، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي. وكذلك قول من قال { فَغَوَىٰ } أي بشم من كثرة الأكل. والبشم: التخمة، فهو قول باطل. وقال فيه الزمخشري في الكشاف: وهذا وإن صحَّ على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً فيقول في فَنِي وبَقِيَ، فنا وبقا، وهم بَنُو طَيْئ ـ تفسير خبيث، ا هـ منه. وما أشار إليه الزمخشري من لغة طَيْئ معروف. فهم يقولون للجارية: جاراة، وللناصية ناصاة، ويقولون في بَقِيَ بقى كَرَمَى. ومِن هذه اللغة قول الشاعر:

لعمرك لا أخشَى التصعلك ما بقي على الأرض قيسي يسوق الأباعرا

وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور، لأن العرب تقول: غوى الفصيل كرضى وكرمى: إذا بشم من اللبن.
وقوله تعالى في هذه الآية: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ } يدل على أن معنى "غَوَى" ضلَّ عن طريق الصواب كما ذكرنا. وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين مِن الصغائر. وعِصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف، وسنذكر هنا طرفاً من كلام أهل الأصول في ذلك. قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول:
مسألة:
الأكثر على أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء مَعْصية. وخالف الروافض، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي. والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام. لدلالة المعجزة على الصدق. وجوَّزه القاضي غلطاً وقال: دلت على الصدق اعتقاداً. وأما غيره مِن المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة. والأكثر على جواز غيرهما ـ ا هـ منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر، ومن صغائر الخِسّة دون غيرها من الصغائر. وقال العّلامة العلوي الشنقيطي في (نشر البنود شرح مراقي السعود) في الكلام على قوله:

والأنبياء عُصِموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكّه
بجائز بل ذاك لِلتشريع أو نية الزلفى من الرفيع

ما نصّه: فقد أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه. كدعوى الرسالة، وما يبلغونه عن الله تعالى للخلائق. وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهواً أو نسياناً منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ. فإن كان كُفراً فقد أجمعت الأُمَّة على عِصْمَتِهم منه قبل النبُوَّة وبعدها، وإن كان غيره فالجمهور على عِصْمَتهم مِن الكبائر عَمداً. ومخالف الجمهور الحشوية.
واختلف أهل الحق: هل المانع لِوقوع الكبائر مِنهم عَمْداً العقل أو السمع؟ وأما المعتزلة فالعقل، وإن كان سهواً فالمختار العِصْمة منها. وأما الصغائر عمداً أو سهواً فقد جَوزها الجمهور عقلاً. لكنها لا تقع مِنْهم غير صغائر الخِسَّة فلا يجوز وقوعها منهم لا عمداً ولا سهواً ـ انتهى منه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكذب فيما يُبلِّغونه عن الله ومن الكُفر والكبائر وصغائر الخسّة. وأن الجمهور على جواز وُقوع الصغائر الأخرى منهم عقلاً. غير أن ذلك لم يقع فعلاً. وقال أبو حيَّان في البحر في سورة "البقرة" وفي المنتخب للإمام أبي عبدالله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصّه: مَنعت الأمَّة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا: وقد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كُفر. وأجاز الإمامية إظهار الكُفر منهم على سبيل التقية. واجتمعت الأمة على عِصْمتهم مِن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يَجوز عمداً ولا سهواً. ومِن الناس من جوز ذلك سهواً. وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً. واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جِهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمداً إلا في القول كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو والخطأ، وهُم مأخُوذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أمتهم. وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العِصْمة. فقالت الرافضة: مِن وَقْت مَوْلدهم. وقال كثير من المعتزلة: مِن وَقْت النبوة. والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتَّة لا الكبيرة ولا الصغيرة. لأنهم لو صَدَر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لعظيم شرفهم وذلك محال، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زَجْرهم وإيذاؤهم، ولئلا يُقْتَدَى بهم في ذلك. ولئلا يكونوا مُسْتَحِقِّين لِلعقاب، ولِئلا يفعلوا ضِد ما أمروا به لأنهم مُصْطفون، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء ـ انتهى ما لخَّصناه من (المنتخب)، والقول في الدلائل لهذه المذاهب. وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. انتهى كلام أبي حَيان.
وحاصل كلام الأصوليِّين في هذه المسألة: عِصْمَتهم مِن الكُفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير الصغائر الخسة منهم. ولكن جماعة كثيرة مِن متأخِّري الأصوليِّين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلاً لم يَقع فعلاً، وقالوا: إنما جاء في الكتاب والسنَّة مِن ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسياناً أو سهواً، أو نحو ذلك.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة ـ أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يَقع منهم ما يزري بمراتبهم العَلِّية، ومناصبهم السامِيَة. ولا يستوجب خطأ منهم ولا نقصاً فيهم صَلوات الله وسلامه عليهم، ولو فَرَضْنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص، وصِدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئاً من ذلك. ومِما يوضح هذا قوله تعالى: { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 121-122]. فانظر أي أثر يبقى لِلعِصْيان والغي بعد توبة الله عليه، واجتبائه أي اصطفائه إياه، وهِدايته له، ولا شكّ أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة. والعلم عند الله تعالى.