التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
-طه

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه منَّ على موسى مرة أخرى قبل مَنِّه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير، إذ أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام. وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك. ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبياً، و "أن" في قوله { أَنِ ٱقْذِفِيهِ } هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه. والتعبير بالموصول في قوله { مَا يُوحَىٰ } للدلالة على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله:
{ { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78]، وقوله { { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم: 10] والتابوت: الصندوق. واليم: البحر. والساحل: شاطئ البحر. والبحر المذكور: نيل مصر. والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: { { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } [الأحزاب: 26] ومعنى { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ } أي ضعيه في الصندوق. والضمير في قوله { أَنِ ٱقْذِفِيهِ } راجع إلى موسى بلا خلاف. وأما الضمير في قوله { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ } وقوله { فَلْيُلْقِهِ } فقيل: راجع إلى التابوت. والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت، لأن تفريق الضمائر غير حسن، وقوله { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } هو فرعون، وصيغة الأمر في قوله { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } فيها وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما ـ أن صيغة الأمر معناها الخبر، قال أبو حيان في البحر المحيط: و { فَلْيُلْقِهِ } أمر معناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.
الوجه الثاني ـ أن صيغة الأمر في قوله { فَلْيُلْقِهِ } أريد بها الأمر الكوني القدري، كقوله
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل، لأن الله أمره بذلك كوناً وقدراً. وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى: { { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [مريم: 75].
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات ـ أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله في "القصص":
{ { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 7 - 8] وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه في اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى: { { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [القصص: 10].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { يَأْخُذْهُ } مجزوم في جواب الطلب الذي هو { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } وعلى أنه بمعنى الأمر الكوني فالأمر واضح. وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ. والعلم عند الله تعالى. وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار ـ وهو الزفت ـ لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطناً محلوجاً. وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، قيل: واسمه حزقيل. وكانت عقدت في التابوت حبلاً فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل. فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله
{ { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } [القصص: 10] الآية.
وما ذكره جلا وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } [طه: 37] ـ أشار إلى ما يشبهه في قوله:
{ { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [الصافات: 114] الآية.
قوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }.
من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى وعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ ما ذكره جل وعلا في "القصص" في قوله:
{ { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } [القصص: 9] الآية، قال ابن عباس { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }: أي أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال. لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. قاله القرطبي.