التفاسير

< >
عرض

أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
٨٩
-طه

أضواء البيان في تفسير القرآن

بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه. وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضرر ورد الجواب. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في "الأعراف" في القصة بعينها: { { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [الأعراف: 148] ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين. ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم: { { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [مريم: 42]، وقوله تعالى عنه أيضاً: { { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [الشعراء: 72_73]، وقوله تعالى: { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [الأعراف: 195] وقوله تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5-6]، وقوله تعالى: { { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 13-14]. وقد قدمنا الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء والواو، كقوله هنا: { أَفَلاَ يَرَوْنَ } فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذا الحرف جماهير القراء { أَلاَّ يَرْجِعُ } بالرفع لأن "أن" مخففة من الثقيلة. والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في "الأعراف": { { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ } [الأعراف: 148] الآية، ورأى في آية "طه، والأعراف" علمية على التحقيق، لأنهم يعلمون علماً يقيناً أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ولا يضر ولا يتكلم.
واعلم أن المقرر في علم النحو أن: "أن" لها ثلاث حالات: الأولى ـ أن تكون مخففة من الثقيلة قولاً واحداً. ولا يحتمل أن تكون "أن" المصدرية الناصبة للفعل المضارع. وضابط هذه: أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين. كقوله تعالى:
{ { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } [المزمل: 20]، وقوله: { { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } [الجن: 28] الآية، ونحو ذلك من الآيات، وقول الشاعر:

واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا

وقول الآخر:

في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل ما يحفى وينتعل

وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ولا ينصب كقوله:

علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل

و"أن" هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكناً غالباً، والأغلب أن يكون ضمير الشأن. وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن، وخبرها الجملة التي بعدها، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:

وإن تخفف أن فاسمها استكن والخبر اجعل جملة من بعد أن

وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر. كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:

لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مربع وأنك هناك تكون الثمالا

وقول الآخر:

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق

الحالة الثانية ـ أن تكون محتملة لكونها المصدرية الناصبة للمضارع. ومحتملة لأن تكون هي المخففة من الثقيلة. وإن جاء بعدها فعل مضارع جاز نصبه للاحتمال الأول، ورفعه للاحتمال الثاني، وعليه القراءتان السبعيتان في قوله { { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [المائدة: 71] بنصب "تكون" ورفعه، وضابط "أن" هذه أن تكون بعد فعل يقتضي الظن ونحوه من أفعال الرجحان. وإذا لم يفصل بينها وبين الفعل فاصل فالنصب أرجح، ولذا اتفق القراء على النصب في قوله تعالى { { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } [العنكبوت: 2] الآية. وقيل: إن "أن" الواقعة بعد الشك ليس فيها إلا النصب. نقله الصبان في حاشيته عن أبي حيان بواسطة نقل السيوطي.
الحالة الثالثة ـ أن تكون "أن" ليست بعد ما يقتضي اليقين ولا الظن ولم يجر مجراهما، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولاً واحداً. وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة:

وبأن انصبه وكى كذا بأن لا بعد علم والتي من بعد ظن
فانصب بها والرفع صحح واعتقد تخفيفها من أن فهو مطرد

تنبيه:
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً. لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط ـ انتهى كلامه. وما ذكره مقرر في الأصول. فكل ما توقف على شرطين فصاعداً لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه ديناراً. لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة. ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد. فلو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهماً. فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله:

وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين
وما على البدل قد تعلقا فبحصول واحد تحققا

وقال ابن كثيررحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه يهموت. وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمر: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب. يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني الحسين رضي الله عنه) وهم يسألون عن دم البعوضة ـ انتهى منه.