التفاسير

< >
عرض

قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ
٧٠
-الأنبياء

أضواء البيان في تفسير القرآن

في الكلام حذف دل المقام عليه، وتقديره: قالوا حرقوه فرموه في النار، فلما فعلوا ذلك { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا } وقد بين في "الصافات" أنهم لما أرادوا أن يلقوه في النار بنوا له بنياناً ليلقوه فيه.
وفي القصة: أنهم ألقوه من ذلك البنيان العالي بالمنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس (يعنون الأكراد)، وأن الله خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قال تعالى:
{ قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 97]. والمفسرون يذكرون من شدة هذه النار وارتفاع لهبها، وكثرة حطبها شيئاً عظيماً هائلاً. وذكروا عن نبي الله إبراهيم أنهم لما كتفوه مجرداً ورموه إلى النار، قال له جبريل: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما الله فنعم! قال: لم لا تسأله؟ قال: علمه بحالي كاف عن سؤالي.
وما ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه أمر النار بأمره الكوني القدري أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ـ يدل على أنه أنجاه من تلك النار. لأن قوله تعالى: { كُونِي بَرْداً } يدل على سلامته من حرِّها. وقوله: { وَسَلاَمَا }. يدل على سلامته من شرِّ بردها الذي انقلبت الحرارة إليه. وإنجاؤه إياه منها الذي دل عليه أمره الكوني القدري هنا جاء مصرحاً به في "العنكبوت" في قوله تعالى:
{ { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } [العنكبوت: 24] وأشار إلى ذلك هنا بقوله: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً } [الأنبياء: 71] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 70] يوضحه ما قبله. فالكيد الذي أرادوه به إحراقه بالنار نصراً منهم لآلهتهم في زعمهم، وجعله تعالى إياهم الأخسرين. أي الذين هم أكثر خسراناً لبطلان كيدهم وسلامته من نارهم.
وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضاً في سورة "الصافات" في قوله:
{ { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ } [الصافات: 98] وكونهم الأسفلين واضح لعلوه عليهم وسلامته من شرهم. وكونهم الأخسرين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وفي القصة: أن الله سلط عليهم خلقاً من أضعف خلقه فأهلكهم وهو البعوض. وفيها أيضاً: أن كل الدواب تطفئ عن إبراهيم النار، إلا الوزغ فإنه ينفخ النار عليه.
وقد قدمنا الأحاديث الواردة بالأمر بقتل الأوزاغ في سورة "الأنعام" وعن أبي العالية: لو لم يقل الله { وَسَلاَمَا } لكان بردها أشد عليه من حرها. ولو لم يقل على "إِبْراهِيمَ" لكان بردها باقياً إلى الأبد. وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم لو لم يقل "وسلاماً" لمات إبراهيم من بردها. وعن السدي: لم تبق في ذلك اليوم نار إلا طفئت. وعن كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. وعن المنهال بن عمرو: قال إبراهيم ما كنت أياماً قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار. وعن شعيب الحماني: أنه ألقي في النار وهو ابن ست عشر سنة. وعن ابن جريج: ألقي فيها وهو ابن ست وعشرين. وعن الكلبي بردت نيران الأرض جميعاً، فما أنضجت ذلك اليوم كراعاً. وذكروا في القصة: أن نمروذ أشرف على النار من الصرح فرأى إبراهيم جالساً على السرير يؤنسه ملك الظل، فقال: نعم الرب ربك، لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه. وكل هذا من الإسرائيليات. والمفسرون يذكرون كثيراً منها في هذه القصة وغيرها من قصص الأنبياء.
وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، أُرَاهُ قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حَصِين عن أبي الضُّحَى عن ابن عباس "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النَّار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:
{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل عن أبي حَصِين عن أبي الضُّحَى عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم حين أُلقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل" ـ انتهى.