التفاسير

< >
عرض

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
٣٩
-الحج

أضواء البيان في تفسير القرآن

متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة: أي أذن لهم في القتال بدليل قوله: يقاتلون، وقد صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أذن للذين يقاتلون وهم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودل قوله: يقاتلون: على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره بدليل قوله تعالى: { { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ } [النور: 61 والفتح: 17] الآية. وقوله جل وعلا: { { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [التوبة: 91] وقوله: { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة. وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية. وقد قالت جماعة من أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع، إذ أراد أن يشرع أمراً شاقاً على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج، لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت، لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة، وإن كان الأجل محدوداً عند الله تعالى كما قال تعالى: { { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [آل عمران: 145] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم، بقوله: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } [النساء: 77] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت، فإنه ينفق فيه الملل أيضاً كما قال تعالى: { { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [الصف: 11] قالوا: ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجاً، فأذن فيه أولاً من غير إيجاب بقوله: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } الآية. ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه، أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: { { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } [البقرة: 190] الآية. وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجاباً عاماً جازماً في آيات من كتابه كقوله تعالى: { { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة: 5] وقوله تعالى: { { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [التوبة: 36] وقوله: { { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم: أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالاً غير ما ذكرنا. ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجاً. فذكر أولاً بعض معائبها كقوله تعالى:
{ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [البقرة: 219] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إثما أكثر مما فيها من النفع، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى: { { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } [النساء: 43] الآية. فكانوا بعد نزولها، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران قبل وقت الصلاة، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة. وكذلك ما بين الصبح والظهر. وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات. فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريماً عاماً جازماً بقوله: { { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90] إلى قوله: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] وكذلك الصوم، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة الفرج والبطن شاقاً على النفوس، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجاً فخير أولاً بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله: { { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة: 184] فلما استأنست النفوس به في الجملة، أوجبه أيضاً إيجاباً عاماً جازماً بقوله: { { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185] الآية وقال بعض أهل العلم: التدريج في تشريع الصوم على ثلاث مراحل كما قبله قالوا: أوجب عليهم أولاً صوماً خفيفاً لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجاً على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفاً، هكذا قالته جماعات من أهل العلم، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } يشير إلى معنيين.
أحدهما: أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريباً:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [الحج: 38].
والمعنى الثاني: أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال لقدرته على إهلاكهم بما شاء، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكهم إياهم، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها اختبار الصادق في إيمانه، وغير الصادق فيه، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله. كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه، كقوله تعالى:
{ { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [محمد: 4] وكقوله تعالى: { { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } [آل عمران: 179] الآية وقوله تعالى: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [التوبة: 16] وقوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [آل عمران: 142] وقوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد: 31] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور، وتسهيل الشهادة في سبيله: { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 140-141] وقرأ هذا الحرف نافع، وأبو عمرو وعاصم: أذن بضم الهمزة وكسر الذال مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة مبنياً للفاعل: أي أذن الله للذين يقاتلون، وقرأ نافع وابن عامر وحفص، عن عاصم: يقاتلون بفتح التاء مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنياً للفاعل.