التفاسير

< >
عرض

فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٥٠
وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
٥١
-الحج

أضواء البيان في تفسير القرآن

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين آمنوا به وبرسله، وكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم: أي حسن، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته، وأن الذي عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم: أي النار الشديد حرها، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه. والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى { { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } [الحجر: 49-50] وقوله { { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ } [غافر: 3] الآية إلى غير ذلك من الآيات، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع وقوله في هذه الآية الكريمة { وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } قال مجاهد: معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النَّبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين. وقال ابن عباس: معاجزين أي مغالبين ومشاقين، وعن الفراء معاجزين: معاندين. وعن الأخفش معاجزين: معاندين مسابقين، وعن الزجاج معاجزين: أي ظانين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا ألا بعث، وأن الله لا يقدر عليهم.
واعلم: أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور: معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر بحسب الوضع العربي في قراء الجمهور معاجزين: هو اقتضاء طرفين، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك، واقتضاء المفاعلة الطرفين في الآية من طريقين.
الأولى: هي ما قاله ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى، والكفار يقاتلون الأنبياء، وأتباعهم، ويمانعونهم، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله. وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى
{ { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } [البقرة: 217] وعليه فمفعول معاجزين محذوف: أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم، أي مغالبين لهم، ليعجزوهم عن إقامة الحق.
الطريقة الثانية: هي التي ذكرناها آنفاً عن الزجاج أن معنى معاجزين: ظانين أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى
{ { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ } [التغابن: 7] وكما قال تعالى { { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] وقال تعالى عنهم إنهم قالوا { { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [الأنعام: 29] { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [الدخان: 35] وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ } [التوبة: 2] وقوله { { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 3] وقوله: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [العنكبوت: 22] الآية وقوله تعالى في الجن { { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } [الجن: 12] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك رضي الله عنه:

زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب

ومراده بسخينة قريش: يعني أنهم يحاولون غلبة ربهم، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: معجزين بكسر الجيم المشددة، بلا ألف، فالأظهر أن المعنى معجزين: أي مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه، وقيل معجزين من اتبع النَّبي صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك: أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم: عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم، يعنون أنهم يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم، حيث ارتكبوا أمراً غير الحزم والصواب، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين { { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } [البقرة: 13] الآية وقوله في هذه الآية الكريمة { وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا }.
اعلم أولاً: أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا: { سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا } أي سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم: إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين، ونحو ذلك. ومن إطلاق السعي في الفساد أيضاً قوله تعالى
{ { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } [البقرة: 205] الآية ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } [الإنسان: 22] وقوله { { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ } [عبس: 8-9] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
ومن إطلاق السعي على الخير والشر معاً قوله تعالى
{ { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 4] إلى قوله: { { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } [الليل: 11] وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة الحج التي هي قوله تعالى { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } جاء معناها واضحاً في سورة سبأ في قوله تعالى { { لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 4-5] فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في سبأ هو عذاب الجحيم المذكور في الحج.