التفاسير

< >
عرض

وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ }.
أي اصطفاكم، واختاركم يا أمة محمد.
ومعنى هذه الآية أوضحه بقوله
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110] الآية.
قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }.
الحرج: الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنها مبنية على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج. وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع كقوله تعالى
{ { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة: 185] وقوله { { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء: 28] وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، "وابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ خواتم سورة البقرة ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال الله قد فعلت" في رواية ابن عباس. وفي رواية أبي هريرة قال: نعم. ومن رفع الحجر في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه، وصلاة العاجز عن القيام قاعداً وإباحة المحظور للضرورة كما قال تعالى { { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام: 119] الآية إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير، وما تضمنته هذه الآية الكريمة والآيات التي ذكرنا معها من رفع الحرج، والتخفيف في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، هو إحدى القواعد الخمس، التي بنى عليها الفقه الإسلامي وهي هذه الخمس.
الأولى: الضرر يزال ومن أدلتها حديث:
"لا ضرر ولا ضرار" .
الثانية: المشقة تجلب التيسير: وهي التي دل عليها قوله هنا { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وما ذكرنا في معناها من الآيات.
الثالثة: لا يرفع يقين بشك، ومن أدلتها حديث
"من أحس بشيء في دبره في الصلاة وأنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً" لأن تلك الطهارة المحققة لم تنقض بتلك الريح المشكوك فيها.
الرابعة: تحكيم عرف الناس المتعارف عندهم في صيغ عقودهم ومعاملاتهم، ونحو ذلك. واستدل لهذه بعضهم بقوله
{ { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } [الأعراف: 199] الآية.
الخامسة: الأمور تبع المقاصد، ودليل هذه حديث
"إنما الأعمال بالنيات" الحديث. وقد اشار في مراقي السعود في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله:

قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر
ونفى رفع القطع بالشك وأن يحكم العرف وزاد من فطن
كون الأمور تبع المقاصد مع التكلف ببعض وارد

قوله تعالى: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ }.
قال بعضهم: هو منصوب بنزع الخافض، ومال إليه ابن جرير: أي ما جعل عليكم في دينكم من ضيق، كملة إبراهيم، وأعربه بعضهم منصوباً بمحذوف: أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم، ولا يبعد أن يكون قوله { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } شاملاً لما ذكر قبله من الأوامر في قوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 77-78]. ويوضح هذا قوله تعالى
{ { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [الأنعام: 161] والدين القيم الذي هو ملة إبراهيم: شامل لما ذكر كله.
قوله تعالى: { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا }.
اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ هو من قوله { هُوَ سَمَّاكُمُ } فقال بعضهم الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، وهذا القول مروى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعطاء، والضحاك، والسدي، من قبل وفي هذا، وهذا القول مروى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعطاء، والضحاك، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة. كما نقله عنهم ابن كثير. وقال بعضهم: هو أي إبراهيم سماكم المسلمين، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل
{ { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128] وبهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، كما نقله عنهم ابن كثير. وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم غير صواب.
إحداهما: أن الله قال { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا } أي القرآن، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير.
القرينة الثانية: أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله، لا إلى إبراهيم فقوله { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } أي الله وما جعل عليكم في الدين من حرج: أي الله هو سماكم المسلمين: أي الله.
فإن قيل: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور للضمير المذكور: هو إبراهيم.
فالجواب أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف، وهنا قد صرف عنه صارف، لأن قوله وفي هذا يعني القرآن، دليل على أن المراد بالذي سماهم المسلمين فيه: هو الله لا إبراهيم، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يناسبه أن يكون هو سماكم: أي الله المسلمين.
قال ابن كثيررحمه الله في تفسير الآية بعد أن ذكر: أن الذي سماهم المسلمين من قبل وفي هذا: هو الله، لا إبراهيم ما نصه:
قلت: وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ملة إبراهيم أبيهم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر، وقديم الزمان في كتاب الأنبياء، تتلى على الأحبار والرهبان فقال { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا القرآن.
وفي هذا روى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام، أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"من دعا دعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم، قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: نعم وإن صام وإن صلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله { { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21] اهـ من تفسير ابن كثير.
وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة: إن الحديث المذكور فيه أن الله هو الذي سماهم المسلمين المؤمنين.
قوله تعالى: { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ }.
يعني: إنما اجتباكم، وفضلكم ونوه باسمكم المسلمين من قبل نزول كتابكم، وزكاكم على ألسنة الرسل المتقدمين، فسماكم فيها المسلمين، وكذلك سماكم في هذا القرآن. وقد عرف بذلك أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، أن الرسل بلغتهم رسالات ربهم، حين ينكر الكفار ذلك يوم القيامة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أنه بلغكم، وقيل: شهيداً على صدقكم فيما شهدتم به للرسل على أممهم من التبليغ.
وهذا المعنى المذكور هنا ذكره الله جل وعلا في قوله
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] وقال فيه صلى الله عليه وسلم { { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [الفتح: 8] الآية. والعلم عند الله تعالى.