التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً
١٥
لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً
١٦
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

التحقيق أن الإشارة في قوله: أذلك راجعة إلى النار، وما يلقاه الكفار فيها من أنواع العذاب كما ذكره جل وعلا بقوله: { { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } [الفرقان: 11] إلى قوله تعالى: { { وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان: 14] وغير هذا من الأقوال لا يعول عليه، كقول من قال: إن الإشارة راجعة إلى الكنز والجنة في قوله تعالى: { { أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ } [الفرقان: 8] الآية، وكقول من قال: إنها راجعة إلى الجنات والقصور المعلقة على المشيئة في قوله تعالى: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } [الفرقان: 10] والتحقيق إن شاء الله أنه لما ذكر شدة عذاب النار وفظاعته قال: أذلك العذاب خير أم جنة الخلد الآية.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، جاء أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الصافات:
{ { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } [الصافات: 60ـ66] إلى قوله: { { يُهْرَعُونَ } [الصافات: 70] وكقوله تعالى: { { أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [فصلت: 40] الآية.
وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف، وهو أن يقال: لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية:

وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر

كما قدمناه موضحاً في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: { { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } [النحل: 30] الآية.
والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال.
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين:
الأول: أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن، وفي اللغة مراداً بها مطلق الاتصاف، لا تفضيل شيء على شيء. وقدمناه مراراً وأكثرنا من شواهده العربية في سورة النور وغيرها.
الثاني: أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

أتهجوه ولست له بكفء فَشَرُّكُما لخيركما الفداء

وكقول العرب: الشقاء أحب إليك، أم السعادة؟ وقوله تعالى: { { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [يوسف: 33] الآية.
قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى: { أَذٰلِكَ خَيْرٌ } الآية، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله:

فَشَرُّكُمَا لِخيْرِكُمَا الفِداءُ

وكقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وكقوله: { { ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } [يوسف: 33] وهذا الاستفهام على سبيل التوفيق والتوبيخ. اهـ الغرض من كلام أبي حيان.
وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير ألبتة كما لا يخفى، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان.
وقوله تعالى في هذه الآية: { أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وَعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } العائد محذوف: أي وعدها المتقون، والآية تدل على أن الوعد الصادق بالجنة، يحصل بسبب التقوى.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ { كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } [النحل: 31] وقوله تعالى: { { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } [النحل: 31] العائد أيضاً محذوف كالذي قبله: أي ما يشاءونه، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير، كما قال في الخلاصة:

والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب
بفعل أو وصف كمن نرجو يهب

وهذه الآية الكريمة، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } [النحل: 31] والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة، وقوله: { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } المصير مكان الصيرورة، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى: { { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف: 31] لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } فيه وجهان معروفان:
أحدهما: أن معنى كونه مسؤولاً أن المؤمنين كانوا يسألونه. وكانت الملائكة أيضاً تسأله لهم، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى: بقوله عنهم:
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَاد } [آل عمران: 194] وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضاً في قوله: { { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ } [غافر: 8] الآية، وقال بعض العلماء: مسؤولاً: أي واجباً لأن ما وعد الله به فهو واجب الوقوع، لأنه لا يخلف الميعاد، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء الله لا معقب لحكمه ويستأنس لهذا القول بلفظة على في قوله تعالى: { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } كقوله تعالى: { { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] وقال بعض أهل العلم: إن المسلمين يوم القيامة يقولون: قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا، والقولان الأولان أقرب من هذا. والعلم عند الله تعالى.