التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً
٣
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه، متصفة بستة أشياء كل واحد منها برهان قاطع، أن عبادتها مع الله، لا وجه لها بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة، على أن المتصف بها هو المعبود وحده، والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله:
الأول منها: أنها لا تخلق شيئاً أي لا تقدر على خلق شيء.
والثاني منها: أنها مخلوقة كلها أي خلقها خالق كل شيء.
والثالث: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً.
الرابع والخامس والسادس: أنها لا تملك موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، أي بعثاً بعد الموت، وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى.
أما الأول منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئاً، فقد جاء مبيناً في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } [الحج: 73] الآية. وقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النحل: 20ـ21] وقوله تعالى في سورة فاطر { { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } [فاطر: 40] وقوله تعالى في سورة لقمان: { { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [لقمان: 11] وقوله تعالى في الأحقاف: { { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الأحقاف: 4]. وقوله تعالى: { { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51] وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق، ومن لا يخلق، لأن من يخلق هو المعبود، ومن لا يخلق لا تصح عبادته، كقوله تعالى: { { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [البقرة: 21] الآية. أي وأما من لم يخلقكم، فليس برب، ولا بمعبود لكم كما لا يخفى. وقوله تعالى: { { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [النحل: 17] وقوله تعالى: { { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الرعد: 16] أي ومن كان كذلك، فهو المعبود وحده جل وعلا وقوله تعالى: { { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191].
وأما الأمر الثاني منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة، فقد جاء مبيناً في آيات من كتاب الله كآية النحل والأعراف، المذكورتين آنفاً.
أما آية النحل فهي قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [النحل: 20] فقوله: وهم يخلقون صريح في ذلك. وأما الآية الأعراف فهي قوله تعالى: { { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأمر الثالث منها: وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فقد جاء مبيناً أيضاً في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى:
{ { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } [الرعد: 16]. وكقوله تعالى: { { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } [الأعراف: 191ـ192] ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضراً ولا نفعاً. وقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاۤ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [الأعراف: 197] وقوله تعالى: { { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [الأعراف: 193ـ195] الآية.
وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وقوله تعالى:
{ { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } [الحج: 73] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الرابع والخامس والسادس، من الأمور المذكورة: أعني كونهم لا يملكون موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً. فقد جاءت أيضاً مبينة في آيات من كتاب الله كقوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الروم: 40].
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون، يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور في الآية، ومنه الحياة المعبر عنها بخلقكم، والموت المعبر عنه بقوله: ثم يميتكم، والنشور المعبر عنه بقوله: ثم يحييكم، وبين أنهم لا يملكون نشوراً بقوله:
{ { أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ } [الأنبياء: 21]، وبين أنهم لا يملكون حياة ولا نشوراً في قوله تعالى: { { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [يونس: 34] الآية، وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة كقوله تعالى: { { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [آل عمران: 145] وقوله تعالى: { { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [المنافقون: 11] الآية، وقوله تعالى: { { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [نوح: 4] الآية، وقوله تعالى: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28] الآية، وقوله تعالى: { { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ } [غافر: 11] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أظهر الأقوال فيه أن المعنى لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع. كما قاله القرطبي وغيره. وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب وقد أشار إليه في الخلاصة بقوله:

وما يلي المضاف يأتي خلفاً عنه في الإعراب إذا ما حذفاً

وقيل المعنى: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم، أو ينفعوها بشيء والأول هو الأظهر: أي وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز، لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَلاَ نُشُوراً } اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين:
الأول: أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي، تقول: نشر الله الميت ينشره نشراً ونشوراً.
والثاني: أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشوراً لازماً، والميت فاعل نشر.
والحاصل: أن في المادة ثلاث لغات الأولى: أنشره رباعياً بالهمزة ينشره بضم الياء إنشاراً. ومنه قوله تعالى:
{ { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [عبس: 22] وقوله تعالى: { { وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } [البقرة: 259] بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو. وهو مضارع أنشره. والثانية نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور، ومنه قوله هنا: ولا نشوراً: أي لا يملكون أن ينشروا أحداً بفتح الياء، وضم الشين والثالثة: نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم، ومعنى أنشره، ونشره متعدياً أحياه بعد الموت، ومعنى نشر الميت لازماً حيي الميت وعاش بعد موته، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب، ومن إطلاقهم نشر الميت لازماً فهو ناشر أي عاش بعد الموت قول الأعشى:

لو أسندت ميتاً إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت، مصدر الثلاثي المتعدي. قوله هنا: ولا نشوراً: أي بعثاً بعد الموت، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم قول الآخر:

إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير
فيأخذني العناق وبرد فيها بموت في عظامي أو فتور
فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور

فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتاً، والإفاقة منها نشوراً، أي حياة بعد الموت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً } حذف فيه أحد المفعولين: أي اتخذوا من دونه أصناماً آلهة، كقوله تعالى:
{ { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } [الأنعام: 74] الآية. والآلهة جمع إله، فهو فعال مجموع على أفعلة، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة كما قال في الخلاصة:

ومدا أبدل ثاني الهمزين من كلمة إن يسكن كآثر وأتمن

والإله المعبود فهو فعال بمعنى مفعول، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإله بمعنى المألوه: أي المعبود، والكتاب بمعنى المكتوب، واللباس بمعنى: الملبوس، والإمام بمعنى المؤتم به. ومعلوم أن المعبود بحق واحد وغيره من المعبودات أسماء الكفار، ما أنزل الله بها من سلطان { { وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [يونس: 66]، { { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم: 23] الآية.