التفاسير

< >
عرض

وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٥
قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٦
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفار قالوا: إنَّ هذا القرآن أساطير الأولين أي مما كتبه، وسطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعه، وأخذه من تلك الأساطير، وأنه اكتتب تلك الأساطير، قال الزمخشري: أي كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه، وقوله { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } أي تلقى إليه، وتُقرأ عند إرادته كتابتها ليكتبها، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه، والهمزة مبدلة من اللام تخفيفاً، والأصل في الإملاء الإملال باللام ومنه قوله تعالى: { { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } [البقرة: 282] الآية وقوله: { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } البكرة: أول النهار، والأصيل: آخره.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أنَّ الكفار قالوا: إن القرآن أساطير الأولين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من غيره، وكتبه جاء موضحاً في آيات متعددة كقوله تعالى:
{ { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [الأنفال: 31].
وقد ذكرنا آنفاً الآيات الدالة على أنهم افتروا عليه أنه تعلم القرآن من غيره، وأوضحناه تعنتهم، وكذبهم في ذلك في سورة النحل، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى:
{ { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } [النحل: 103] الآية فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله: { ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْه } قوله تعالى:
{ { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48] وقوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } [الأعراف: 157] إلى قوله تعالى: { { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ } [الأعراف: 158] الآية، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب وما ذكر جل وعلا في الآية الأخيرة من قوله: { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية. وجاء أيضاً موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: { { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } [النحل: 102] الآية، وقوله تعالى: { { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة: 97] الآية. وقوله تعالى: { { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 192ـ195]، وقوله تعالى: { { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114] وقوله تعالى: { { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16ـ19] وقوله تعالى: { { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الحاقة: 38ـ43]، وقوله تعالى: { { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى } [طه: 4] إلى غير ذلك من الآيات، وقوله هنا: { ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْض } أي ومن يعلم السر فلا شك أنه يعلم الجهر.
ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه تعالى يعلم السر في السموات والأرض قوله تعالى:
{ { وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7] وقوله تعالى: { { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [الملك: 13] وقوله تعالى: { { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [التوبة: 78] وقوله تعالى: { { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف: 8]، وقوله تعالى: { { ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } [السجدة: 6]، وقوله تعالى: { { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ } [البقرة: 235] الآية، وقوله تعالى: { { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل: 75]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }، قال فيه ابن كثير: هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم، وافترائهم، وفجورهم، وبهتانهم، وكفرهم، وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيهم إلى الإسلام والهدى، كما قال:
{ { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 73ـ74] وقال تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } [البروج: 10].
قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة. انتهى كلام ابن كثيررحمه الله تعالى. وما ذكره واضح.
والآيات الدالة على مثله كثيرة كقوله تعالى:
{ { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] وقوله تعالى: { { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.