التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً
٦١
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

قد قدمنا كلام أهل العلم في معنى تبارك في أول هذه السورة الكريمة.
والبروج في اللغة: القصور العالية، ومنه قوله تعالى:
{ { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78].
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية، فقال بعضهم: هي الكواكب العظام. قال ابن كثير: وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة، ثم قال: وقيل هي قصور في السماء للحرس. ويروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وهو رواية عن أبي صالح أيضاً، والقول الأول أظهر اللهم إلا أن تكون الكواكب العظام، هي قصور للحرس فيجتمع القولان، كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [تبارك: 5] اهـ. محل الغرض من كلام ابن كثير.
وقال الزمخشري في الكشاف: البروج منازل الكواكب السبعة السيارة الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس والجدي، والدلو والحوت، سميت البروج التي هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها، واشتقاق البرج من التبرج لظهوره. اهـ منه.
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وهو الشمس، وقمراً منيراً، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16] وقوله تعالى: { { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [البروج: 1] وقوله تعالى: { { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } [النبأ: 13] وقوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } [نوح: 15ـ 16] وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: وجعل فيها سراجاً بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف على الإفراد، وقرأه حمزة والكسائي: سرجاً بضم السين، والراء جمع سراج، فعلى قراءة الجمهور بإفراد السراج فالمراد به الشمس، بدليل قوله تعالى: { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجمع. فالمراد بالسرج الشمس، والكواكب العظام.
وقد قدمنا في سورة الحجر أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنية لا السماء التي هي مطلق ما علاك، لأن الله بين في سورة الحجر، أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى:
{ { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47] وقوله: { { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [النبأ: 12] وليست مطلق ما علاك، والبيان المذكور في سورة الحجر في قوله تعالى: { { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [الحجر: 16ـ17] الآية. فآية الحجر هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية، المحفوظة لا مطلق ما علاك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه جل وعلا في آية الفرقان هذه، بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج، لأنه قال هنا: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك، وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: يوجد في كلام بعض السلف، أن القمر في فضاء بعيد من السماء، وأن علم الهيئة دل على ذلك، وأن الإرصاد الحديثة بينت ذلك.
قلنا: ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدي القرآن العظيم، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له يا نبي الله: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم لم ينزل يكبر حتى يستدير بدراً؟ نزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر وترك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالى:
{ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [البقرة: 189] وهذا الباب الذي أرشد القرآن العظيم إلى سده لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر، والإلحاد وتكذيب الله ورسوله من غير فائدة دنيوية، الذي أرشد الله إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه، وعجائبه في السماوات والأرض ليستدل بذلك على كمال قدرته تعالى، واستحقاقه للعبادة وحده، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار.
وعلى كل حال فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرآن العظيم إلا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه كما هو معلوم في محله.
ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم، وضعفهم، وعجزهم، وذلهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جل وعلا.
وقد قدمنا في سورة الحجر أن ذلك يدل عليه قوله تعالى:
{ { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } [ص: 10ـ11].
فإن قيل: الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال على أسلوب عربي معروف، يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت، وهو عود الضمير إلى اللفظ وحده دون المعنى.
وإيضاحه أن يقال في قوله: { جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً } هي السماء المحفوظة، ولكن الضمير في قوله: { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } راجع إلى مطلق لفظ السماء الصادق بمطلق ما علاك في اللغة، وهذا أسلوب عربي معروف وهو المعبر عنه عند علماء العربية بمسألة: عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر، ومنه قوله تعالى:
{ { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [فاطر: 11] أي ولا ينقص من عمر معمر آخر.
قلنا: نعم هذا محتمل، ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه، والعدول عن ظاهر القرآن العظيم لا يجوز إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وظاهر القرآن أولى بالاتباع والتصديق من أقوال الكفرة، ومقلديهم والعلم عند الله تعالى.