التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
-الشعراء

أضواء البيان في تفسير القرآن

أي قال موسى مجيباً لفرعون: فعلتها إذاً: أي إذ فعلتها وأنا في ذلك الحين من الضالين: أي قبل أن يوحي الله إلي، ويبعثني رسولاً، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية.
وقول من قال من أهل العلم: وأنا من الضالين، أي من الجاهلين، راجع إلى ما ذكرنا، لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلاً: أي غير عالم بما أوحى الله إليه.
وقد بينا مراراً في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرآن وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات.
الإطلاق الأول: يطلق الضلال مراداً به الذهاب عن حقيقة الشيء. فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضل عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما، وليس من الضلال في الدين.
ومن هذا المعنى قوله هنا: وأنا من الضالين: أي من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي ومنه على التحقيق:
{ { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7] أي ذاهباً عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي.
ومن هذا المعنى قوله تعالى:
{ { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52] فقوله: { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } أي لا يذهب عنه علم شيء كائناً ما كان، وقوله تعالى: { { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282] فقوله: أن تضل إحداهما: أي تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده: فتذكر إحداهما الأخرى، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب: { { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [يوسف: 8] وقوله: { { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95] على التحقيق في ذلك كله. ومن هذا المعنى قول الشاعر:

وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم

والإطلاق الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحق إلى الباطل، وعن طريق الجنة إلى النار ومنه قوله تعالى: { { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7].
والإطلاق الثالث: هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضل الشيء إذا غاب واضمحل، ومنه قولهم: ضل السمن في الطعام، إذا غاب فيه واضمحل، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالاً، لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل.
ومن هذا المعنى قوله تعالى:
{ { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة: 10] الآية يعنون إذا دفنوا وأكلتهم الأرض، فضلوا فيها: أي غابوا فيها واضمحلوا.
ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحرث بن أبي شمر الغساني:

فإن تحيى لا أملك حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل

وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم:

أضلت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدهر قيس بن عاصم

فقول الذبياني: فآب مضلوه: يعني فرجع دافنوه، وقول السعدي:
أضلت أي دفنت، ومن إطلاق الضلال أيضاً على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل:

كنت القذى في موج أكدر مزيد قذف الآتي به فضل ضلالا

وقول الآخر:

ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا

وزعم بعض أهل العلم: أن للضلال إطلاقاً رابعاً: قال: ويطلق أيضاً على المحبة قال: ومنه قوله: { { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95] قال أي في حبك القديم ليوسف، قال ومنه قول الشاعر:

هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

وزعم أيضاً أن منه قوله { { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7] قال أي محباً للهداية فهداك، ولا يخفى سقوط هذا القول. والعلم عند الله تعالى.