التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
-آل عمران

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }.
يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يؤول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرناها فيه أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن. يبين أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد. لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله:
{ { هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [يوسف: 100] وقوله: { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [الأعراف: 53] الآية. وقوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39] وقوله: { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59] إلى غير ذلك من الآيات. قال ابن جرير الطبري: وأصل التأويل من آل الشيء إلى كذا إذا صار إليه ورجع يؤول أولا، وأولته أنا صيرته إليه، وقال: وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:

على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا

قال: ويعني بقوله: تأول حبها مصير حبها، ومرجعه وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيراً في قلبه فآل من الصغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديماً كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب، فصار كبيراً مثل أمه. قال وقد ينشد هذا البيت:

على أنها كانت توابع حبها توالي ربعي السقاب فأصحبا اهـ

وعليه فلا شاهد فيه، والربعي السقب. الذي ولد في أول النتاج ومعنى أصحب انقاد لكل من يقوده، ومنه قول امرئ القيس:

ولست بذي رثية إمر إذا قيد مستكرهاً أصحبا

والرثية: وجع المفاصل. والإمر: بكسر الهمزة وتشديد الميم مفتوحة بعدها راء هو الذي يأتمر لكل أحد. لضعفه وأنشد بيت الأعشى المذكور الأزهري وصاحب اللسان:

ولكنها كانت نوى أجنبية توالى ربعي السقاب فأصحبا

وأطالا في شرحه وعليه فلا شاهد فيه أيضاً.
تنبيه: اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات:
الأول: هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، وهذا هو معناه في القرآن.
الثاني: يراد به التفسير والبيان، ومنه بهذا المعنى
"قوله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" . وقول ابن جرير وغيره من العلماء، القول في تأويل قوله تعالى: كذا أي: تفسيره وبيانه. وقول عائشة الثابت في الصحيح: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن تعني يمتثله ويعمل به، والله تعالى أعلم.
الثالث: هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك، وحاصل تحرير مسالة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:
الأولى: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح، والتأويل القريب كقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح:
"الجار أحق بصَقَبِه" فإن ظاهره المبادر منه ثبوت الشفعة للجار، وحمل الجار في هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حمل له على محتمل مرجوح، إلا أنه دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأنه إذا صرفت الطرق وضربت الحدود، فلا شفعة.
الحالة الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلاً وليس بدليل في نفس الأمر، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد، والتأويل البعيد، ومثل له الشافعية، والمالكية، و الحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة -رحمه الله - المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل" على المكاتبة، والصغيرة، وحمله أيضاً -رحمه الله - المسكين في قوله:
{ سِتِّينَ مِسْكِينًا } [المجادلة: 4] على المد، فأجاز إعطاء ستين مداً لمسكين واحد.
الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعباً، كقول بعض الشيعة.
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } [البقرة: 67] يعني عائشة رضي الله عنها، وأشار في مراقي السعود إلى حد التأويل، وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفاً للتاويل:

حمل لظاهر على المرجوح واقسمه للفاسد والصحيح
صحيحه وهو القريب ما حمل مع قوة الدليل عند المستدل
وغيره الفاسد والبعيد وما خلا فلعبا يفيد

إلى أن قال:

فجعل مسكين بمعنى المد عليه لائح سمات البعد
كحمل مرأة على الصغيره وما ينافي الحرة الكبيره
وحمل ما ورد في الصيام على القضاء مع الالتزام

أما التأويل في اصطلاح خليل بن إسحاق المالكي الخاص به في مختصره، فهو عبارة عن اختلاف شروح المدونة في المراد عند مالك -رحمه الله - وأشار له في المراقي بقوله:

والخلف في فهم الكتاب صير إياه تأويلا لدى المختصر

والكتاب في اصطلاح فقهاء المالكية المدونة قوله تعالى: { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [آل عمران: 7] الآية. لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف، فيكون قوله: { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } مبتدأ، وخبره يقولون، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده، والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة، فيكون قوله: { وَٱلرَّاسِخُونَ } معطوفاً على لفظ الجلالة، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله الراسخون في العلم أيضاً، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة، قال ابن قدامة: في روضة الناظر ما نصه: ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه، متفرد بعلم المتشابه، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى: { { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [آل عمران: 7] لفظاً ومعنى أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال: ويقولون آمنا به بالواو أما المعنى فلأنه ذم مبتغى التأويل، ولو كان ذلك للراسخين معلوماً لكان مبتغيه ممدوحاً لا مذموماً. ولأن قولهم آمنا به، يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم: كل من عند ربنا، فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره، وأنه صدر من عنده، كما جاء من عنده المحكم. ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة، وهم الراسخون. ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه اهـ من الروضة بلفظه.
ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئاً وأثبته لنفسه، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله:
{ { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النمل: 65] وقوله: { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187]. وقوله: { { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]. فالمطابق لذلك أن يكون قوله: { ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ } [آل عمران: 7] معناه: أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال: لو كانت الواو في قوله: { وَٱلرَّاسِخُونَ } [آل عمران: 7] للنسق لم يكن لقوله: { { كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران: 7] فائدة والقول بأن الوقف تام على قوله: { إِلاَّ اللهُ } وأن قوله: { وَٱلرَّاسِخُونَ } ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا.
وممن قال بذلك عمر، وابن عباس، وعائشة، و عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وابن مسعود، وأبي بن كعب، نقله عنهم القرطبي وغيره ونقله ابن جرير عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد.
وقال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا به كل من عند ربنا، والقول بأن الواو عاطفة مروي أيضاً عن ابن عباس وبه قال مجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر:

الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة

فيحتمل أن يكون البرق مبتدأ والخبر يلمع كالتأويل الأول، فيكون مقطوعاً مما قبله، ويحتمل أن يكون معطوفاً على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي: لامعاً.
واحتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن الله سبحانه وتعالى مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال.
قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو: هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. انتهى منه بلفظه.
قال مقيده - عفا الله عنه - يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [آل عمران: 7] بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وهذا ظاهر.
وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره الكشاف. والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
وقال بعض العلماء: والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا هي عاطفة، جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم
"اللهم علمه التأويل" أي: التفسير وفهم معاني القرآن، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه. والذين قالوا هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يؤول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا الله، وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران: الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير: لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله". فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا الله بمعنى التفسير لا ما تؤول إليه حقيقة الأمر.
وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور. الثاني: أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا الله إذ لم يقم دليل على شيء معين أنه هو المراد بها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا من لغة العرب. فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل.
تنبيهان
الأول: اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة يقولون مستشكل من ثلاث جهات: الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون، دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة. و المعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معاً كقولك: جاء زيد وعمرو راكبين.
وقوله تعالى:
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } [إبراهيم: 33].
وهذا الإشكال ساقط. لجواز إتيان الحال من المعطوف فقط دون المعطوف عليه، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى:
{ { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22] فقوله صفاً حال من المعطوف وهو الملك، دون المعطوف عليه وهو لفظة ربك. وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [الحشر: 10] الآية. فجملة يقولون حال من واو الفاعل في قوله الذين جاءوا، وهو معطوف على قوله: { { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [الحشر: 8] وقوله: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } [الحشر: 9] فهو حال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه ابن كثير وغيره.
الجهة الثانية: من جهات الإشكال المذكور هي ما ذكره القرطبي عن الخطابي قال عنه: واحتج له بعض أهل اللغة، فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: آمنا، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه. لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال. ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً يعني: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان يصلح حالاً له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب:

أرسلت فيها قطماً لكالكا يقصر يمشي ويطول باركاً

أي يقصر ماشياً، وهذا الإشكال أيضاً ساقط. لأن الفعل العامل في الحال المذكورة غير مضمر. لأنه مذكور في قوله يعلم ولكن الحال من المعطوف دون المعطوف عليه، كما بينه العلامة الشوكاني في تفسيره وهو واضح.
الجهة الثالثة: من جهات الإشكال المذكورة هي: أن المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو يعلم بهذه الحال التي هي يقولون آمنا. إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم آمنا به. لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا به لا يعلمون تأويله وهو باطل، وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف.
التنبيه الثاني: إذا كانت جملة يقولون: لا يصح أن تكون حالاً لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة؟ الجواب والله تعالى أعلم أنها معطوفة بحرف محذوف والعطف بالحرف المحذوف، أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربية. والتحقيق جوازه، وأنه ليس مختصاً بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربية، والدليل على جوازه وقوعه في القرآن، وفي كلام العرب. فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى:
{ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } [الغاشية: 8] الآية. فإنه معطوف بلا شك على قوله تعالى: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } [الغاشية: 2] بالحرف المحذوف الذي هو الواو ويدل له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى في سورة القيامة: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [القيامة: 22-24] الآية. وقوله تعالى في عبس: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [عبس: 38-40] الآية.
وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى:
{ { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ } [التوبة: 92] الآية. قال يعني وقلت: بالعطف بواو محذوفة وهو أحد احتمالات ذكرها ابن هشام في المغني، وجعل بعضهم منه { { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19] على قراءة فتح همزة إن قال: هو معطوف بحرف محذوف على قوله: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18] أي: وشهد أن الدين عند الله الإسلام وهو أحد احتمالات ذكرها صاحب المغني أيضاً ومنه حديث "تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره" يعني ومن درهمه ومن صاع إلخ.
حكاه الأشموني وغيره، والحديث المذكور أخرجه مسلم والإمام أحمد وأصحاب السنن ومن شواهد حذف حرف العطف قول الشاعر:

كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد الكريم

يعني وكيف أمسيت وقول الحطيئة:

إن امرأ رهطه بالشام منزله برمل يبرين جار شد ما اغتربا

أي: ومنزله برمل يبرين. وقيل: الجملة الثانية صفة ثانية لا معطوفة وعليه فلا شاهد في البيت، وممن أجاز العطف بالحرف المحذوف الفارسي وابن عصفور خلافاً لابن جني والسهيلي.
ولا شك أن في القرآن أشياء لا يعلمها إلا الله كحقيقة الروح. لأن الله تعالى يقول:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] الآية وكمفاتح الغيب التي نص على أنها لا يعلمها إلا هو بقوله: { { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام: 59] الآية.
وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ } [لقمان: 34] الآية. وكالحروف المقطعة في أوائل السور وكنعيم الجنة لقوله تعالى: { { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17] الآية. وفيه أشياء يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم كقوله تعالى: { { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الحجر: 92-93] وقوله: { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6] مع قوله: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [الرحمن: 39] وقوله: { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [القصص: 78] وكقوله: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171] والرسوخ الثبوت. ومنه قول الشاعر:

لقد رسخت في القلب مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا