التفاسير

< >
عرض

إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
٨
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
٩
-يس

أضواء البيان في تفسير القرآن

الأغلال: جمع غلّ وهو الذي يجمع الأيذي إلى الأعناق، والأذقان: جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين، والمقمح بصيغة اسم المفعول، هوالرافع، رأسه. والسد بالفتح والضم: هو الحاجز الذي يسدّ طريق الوصول إلى ما وراءه.
وقوله: { فَأغْشَيْنَا } أي جعلنا على أبصارهم الغشاوة، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالى:
{ { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة: 7] وقوله تعالى: { { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية: 23]. وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص:

هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى: { { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 7] صرفهم الله عن الإيمان صرفاً عظيماً مانعاً من وصوله إليهم، لأن من جعل في عنقه غلّ، وصار الغل إلى ذقنه، حتى صار رأسه مرفوعاً لا يقدر أن يطأطئه، وجعل أمامه سدّ، وخلفه سدّ وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف، ولا جلب نفع لنفسه، ولا في دفع ضرّ عنها، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير.
وهذا المعنى الذي دّلت عليه هذه الآية من كونه جلّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } [الكهف: 57] وقوله تعالى: { { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة: 7] وقوله تعالى: { { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية: 23] وقوله تعالى: { { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [الأنعام: 125] وقوله تعالى: { { ومَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [الأعراف: 186] وقوله تعالى: { { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 41].
وقوله تعالى:
{ { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [النحل: 108] وقوله تعالى: { { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [هود: 20]. وقوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [الكهف: 101] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب وكذلك الأغلال في الأعناق، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم، لتكذيب الرسل، والتمادي على الكفر، فعاقبهم الله على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار، لأن من شؤم السيئات أن الله جلّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقاً.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى:
{ { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [النساء: 155] فالباء سببية، وفي الآية: تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم، وكقوله تعالى: { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [المنافقون: 3] ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل: أي فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالى: { { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5]. وقوله تعالى: { { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110] وقوله تعالى: { { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وقد دلّت هذه الآية على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك كما قال تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17] وقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69] وقوله تعالى: { { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم: أن قول من قال من أهل العلم: إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } أن المراد بذلك الأغلال، التي يعذبون بها في الآخرة كقوله تعالى:
{ { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } [غافر: 71ـ72] خلاف التحقيق، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا كما أوضحنا وقرأ هذا الحرف: حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: { سَدّاً } بالفتح في الموضعين، وقرأه الباقون بضم السين، ومعناهما واحد على الصواب. والعلم عند الله تعالى.