التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٩٩
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠٠
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ
١٠١
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ
١٠٢
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
١٠٣
وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ
١٠٤
قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٠٥
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ
١٠٦
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
١٠٧
-الصافات

أضواء البيان في تفسير القرآن

اعلم أولاً أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لما باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه الله بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ وقد وعدنا في سورة الحجر، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة الصافات، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم وفقني الله وإياك. أن القرآن العظيم قد دل في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في الصافات، والثاني في هود.
أما دلالة آيات الصافات على ذلك فهي واضحة جداً من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم:
{ { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [الصافات: 99ـ110] قال بعد ذلك عاطفاً على البشارة الأولى: { { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الصافات: 112] فدل ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه: فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضاً: وبشرناه بإسحاق، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام الله، وهو واضح في أن الغلام المبشَّر به أولاً الذي فُدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97] الآية. أن المقرر في الأصول أن النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا احتمل التأسيس والتأكيد معاً، وجب حمله على التأسيس ولا يجوز حمله على التأكيد إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية الصافات هذه دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقيناً عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأما الموضع الثاني الدال على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة هود فهو قوله تعالى:
{ { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71] لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضاً دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين، عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء، لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كوناً وقدراً وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا، كما صرح بذلك في قوله تعالى:
{ { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 106ـ107] فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في مراقي السعود بقوله:

للامتثال كلف الرقيب فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلاء ترددا شرط تمكن عليه انفقدا

وقد أشار بقوله: فموجب تمكنا مصيب. وقوله: شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال: إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقد اشترط في التكليف التمكن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة مترددة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط التمكن من الفعل، لأن الحكمة الابتلاء تتحقق مع عدم التمكن من الفعل كما لا يخفى، ومن الفروع المبنية على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض، بعد الظهر غداً من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفارة عليها، ولها أن تفطر، لأنها عالمة بأنها لا تتمكن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلا بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غداً، وقد علم ذلك بالعادة فهو أيضاً ينبني على الخلاف المذكور.