التفاسير

< >
عرض

وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا
١
فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً
٢
فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً
٣
إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ
٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ
٥
-الصافات

أضواء البيان في تفسير القرآن

أكثر أهل العلم على أن المراد بالصافات هنا، والزاجرات، والتاليات: جماعات الملائكة، وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون، وذلك في قوله تعالى عنهم: { { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } [الصافات: 165ـ166] ومعنى كونهم صافين: أن يكونوا صفوفاً متراصين بعضهم جنب بعض في طاعة الله تعالى، من صلاة وغيرها. وقيل: لأنهم يصفون أجنحتهم في السماء، ينتظرون أمر الله، ويؤيد القول الأول حديث حذيفة الذي قدمنا في أول سورة المائدة في صحيح مسلم: وهو قوله صلى الله عليه وسلم "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت لنا تربتها طهوراً إذا لم نجد الماء" ، وهو دليل صحيح على أن الملائكة يصفون كصفوف المصلين في صلاتهم، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على أنهم يلقون الذكر على الأنبياء، لأجل الإعذار والإنذار به كقوله تعالى: { { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً } [المرسلات: 5ـ6]، فقوله: فالملقيات ذكراً كقوله هنا: فالتاليات ذكراً، لأن الذكر الذي تتلوه تلقيه إلى الأنبياء كما كان جبريل ينزل بالوحي، على نبيّنا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه على الجميع، وقوله: عذراً أو نذراً: أي لأجل الإعذار والإنذار، أي بذلك الذكر الذي تتلوه وتلقيه، والإعذار: قطع العذر بالتبليغ.
والإنذار قد قدمنا إيضاحه وبيّنا أنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى:
{ { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 1ـ2] وقوله في هذه الآية: { فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً } الملائكة تزجر السحاب، وقيل تزجر الخلائق عن معاص الله بالذكر الذي تتلوه، وتلقيه إلى الأنبياء.
وممن قال بأن الصافات والزاجرات والتاليات في أول هذه السورة الكريمة هي جماعات الملائكة: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة؛ كما قاله القرطبي وابن كثير وغيرهما، وزاد ابن كثير وغيره ممن قال به: مسروقاً والسدي والربيع بن أنس، وقد قدمنا أنه قول أكثر أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: الصافات في الآية الطير تصف أجنحتها في الهواء. واستأنس لذلك بقوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الملك: 19] الآية. وقوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [النور: 41] الآية.
وقال بعض العلماء: المراد بالصافات جماعات المسلمين يصفون في مساجدهم للصلاة، ويصفون في غزوهم عند لقاء العدو، كما قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [الصف: 4].
وقال بعض العلماء أيضاً المراد بالزاجرات زجراً، والتاليات ذكراً: جماعات العلماء العاملين يلقون آيات الله على الناس، ويزجرون عن معاص الله بآياته، ومواعظه التي أنزلها على رسله.
وقال بعضهم: المراد بالزاجرات زجراً جماعات الغزاة يزجرون الخيل، لتسرع إلى الأعداء، والقول الأول أظهر وأكثر قائلاً، ووجه توكيده تعالى قوله: { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } بهذه الأقسام، و "بإنَّ" و "اللام" هو أن الكفار أنكروا كون الإله واحداً إنكاراً شديداً وتعجبوا من ذلك تعجباً شديداً، كما قال تعالى عنهم:
{ { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ، [ص: 5] ولما قال تعالى: { إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ } أقام الدليل على ذلك بقوله: { رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ }، فكونه خالق السماوات والأرض الذي جعل فيها المشارق والمغارب، برهان قاطع على أنه المعبود وحده.
وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإله المعبود وحده، أقامه على ذلك أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة البقرة:
{ { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 163]، فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متَّصلاً به: { { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164].
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلتُ: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت‌ُ: إمّا أن تدلّ على ترتب معانيها في الوجود كقوله:

يا لهف زيابة للحارث الـ صابح فالغانم فالآئب

كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.
فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟
قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه.
بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة، وجعلتهم جامعين لها فعطفها بالفاء يفيد ترتباً لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف، ثم للزجر ثم للتلاوة. وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقوّاد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات الطير، وبالزاجرات كل ما يزجر عن معصية، وبالتاليات كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة. انتهى كلام الزمخشري في الكشاف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: كلام صاحب الكشاف هذا نقله عنه أبو حيان، والقرطبي وغيرهما، ولم يتعقبوه، والظاهر أنه كلام لاتحقيق فيه، ويوضح ذلك اعتراف الزمخشري نفسه بأنه لا يدري ما ذكره: هل هو كذا أو على العكس، وذلك صريح في أنه ليس على علم مما يقوله، لأن من جزم بشيء ثم جوز فيه النقيضين دل ذلك على أنه ليس على علم مما جزم به.
والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرد الترتيب الذَّكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذَّكري فقط، دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربي معروف جاء في القرآن في مواضع، وهو كثير في كلام العرب.
ومن أمثلته في القرآن العظيم قوله تعالى:
{ { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البلد: 11ـ17] الآية، فلا يخفى أن ثم حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه من الذين آمنوا لا ترتب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذَّكري، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 153ـ154] الآية، كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذِكْرِي.
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى:
{ { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } [البقرة: 199]. ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله:

إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: { وَرَبُّ ٱلْمَشَارِق }، لم يذكر في هذه الآية إلا المشارق وحدها، ولم يذكر فيها المغارب.
وقد بيّنا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب": وجه اختلاف ألفاظ الآيات في ذلك. فقلنا فيه في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } [البقرة: 115] ما لفظه أفرد في هذه الآية الكريمة المشرق والمغرب، وثناهما في سورة الرحمن في قوله تعالى: { { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن: 17] وجمعهما في سورة "سَأَلَ سَائِل" في قوله تعالى: { { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ } [المعارج: 40] وجمع المشارق في سورة الصافات في قوله تعالى: { { رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ } [الصافات: 5].
والجواب: أن قوله هنا: { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِب } المراد به جنس المشرق والمغرب، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك كما رُوي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كلّ يوم.
فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كلّ يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها. انتهى منه بلفظه.
وقوله:
{ { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن: 17] يعني مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، ومغربهما كما عليه الجمهور، وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما.
وقوله:
{ { بِرَبِّ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِب } [المعارج: 40] أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم. وقيل: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها. والعلم عند الله تعالى.