التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٠٢
-النساء

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } الآية.
قال بعض العلماء: المراد بالقصر في قوله: { أَن تَقْصُرُوا } في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها، ومعنى قصر كيفيتها: أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن. كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى وكصلاتهم إيماء رجالاً وركباناً وغير متوجهين إلى القبلة، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها.
قوله تعالى: بعده يليه مبيناً له: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } الآية.
وقوله تعالى:
{ { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239] ويزيده إيضاحاً أنه قال هنا: { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [النساء:103] وقال في آية البقرة: { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 239]. لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف.
وعلى هذا التفسير الذي دل له القرآن، فشرط الخوف في قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء: 101] معتبر أي: وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها، بل صلوها على أكمل الهيئات، كما صرح به في قوله:
{ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [النساء: 103] وصرح باشتراط الخوف أيضاً لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله: { { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239]. ثم قال { { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم } [البقرة: 239] الآية. يعني فإذا أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتم بركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، على أكمل هيئة وأتمها، وخير ما يبين القرآن القرآن، ويدل على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله: باب صلاة الخوف وقول الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء: 101-102] وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولاً، وبالسنة فعلاً، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء: 101] ويؤيده أيضاً أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن، كما وقع في حجة الوداع وغيرها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة "أتموا فإنا قوم سفر" .
وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية: مجاهد، والضحاك، والسدي، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي أبي بكر الرازي الحنفي. ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال: وعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر".
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به. قالوا: "فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة".
وأصرح من ذلك دلالة على هذا، ما رواه الإمام أحمد، حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال:
"صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر" ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم".
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به، وهذا إسناد على شرط مسلم، وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر، وقد جاء مصرحاً به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب إن شاء الله تعالى، وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم، والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه.
وعلى هذا أيضاص فقال، فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي، من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الثقة عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة عن عمر، فالله أعلم.
وقد روى مسلم في صحيحه، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم والنسائي: وأيوب بن عائذ، كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر اربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر".
ورواه ابن ماجه من حديث اسامة بن زيد عن طاوس نفسه، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها لأنها أخبرت أن اصل الصلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر اربع، كما قاله ابن عباس والله أعلم.
ولكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على ان صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر - رضي الله عنه واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات:
الأولى: أنه معارض بالإجماع.
قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى بالقبس. قال علماؤنا: هذا الحديث مردود بالإجماع.
الثانية: أنها هي خالفته، والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضى الله عنها كانت تتم في السفر، قالوا ومخالفتها لروايتها توهن الحديث.
الثالثة: إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم.
الرابعة: أن غيرها من الصحابة خالفها كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم فقالوا: "إن الصلاة فرضت في الحضر اربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة" وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس.
الخامسة: دعوى أنه مضطرب. لأنه رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين" وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: "فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين" الحديث. قالوا: فهذا اضطراب.
السادسة: أنه ليس على ظاهره. لأن المغرب، والصبح لم يزد فيهما، ولم ينقص.
السابعة: أنه من قول عائشة لا مرفوع.
الثامنة: قول إمام الحرمين: لو صح لنقل متواتراً.
قال مقيده - عفا الله عنه - وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها. لأنه لا يصح فيه إجماع، وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه.
وقال القرطبي بعد ذكره دعوى ابن العربي الإجماع المذكور قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع.
وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضاً ظاهرة السقوط. لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور، وقد بيناه في سورة البقرة في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق.
وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد، والنية، واحتجوا بحديث
"لا تختلفوا على إمامكم" وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم.
وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس، فجوابه ما قدمناه آنفاً عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس.
وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط. لأنه ليس فيه اضطراب أصلاً، ومعنى فرض الله وفرض رسول الله واحد. لأن الله، هو المشرع والرسول هو المبين، فإذا قيل فرض رسول الله كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن الله فلا ينافي أن الله هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80] ونظيره حديث "إن إبراهيم حرم مكة" مع حديث "إن مكة حرمها الله" الحديث.
وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضاً. لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي. قالت: "فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب. لأنها وتر النهار" وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور "إلا المغرب فإنها كانت ثلاثاً".
وهذه الروايات تبين أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط. لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع، ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النَّبي صلى الله عليه وسلم في زمنها معه، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل.
وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت النقل متواتراً فهو ظاهر السقوط. لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر - رضي الله عنهم - فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر، وابن عباس، وعائشة قال ما نصه:
وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } [النساء: 101] قصر الكيفية كما في صلاة الخوف. ولهذا قال: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء: 101] الآية. ولهذا قال بعدها { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } [النساء: 102] الآية. فبين المقصود من القصر ها هنا، وذكر صفته وكيفيته اهـ. محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جداً فيما ذكرنا وهو اختيار بن جرير.
وعلى هذا القول فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرآن، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أخر. أحدها: أن معنى { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفاً من حديث ابن عباس عند مسلم، والنسائي، وأبي داود، وابن ماجه. وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس.
وقد روى نحوه أبو داود، والنسائي من حديث حذيفة قال:
"فصلى بهؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا" ورواه النسائي أيضاً من حديث زيد بن ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة، الثوري وإسحاق ومن تبعهما. وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد، والضحاك.
وقال بعضهم: يصلى الصبح في الخوف ركعة، وإليه ذهب ابن حزم، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي. وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف، قال ابو هريرة، وابو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف.
وعلى هذا القول فالقصر في قوله تعالى: { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } [النساء: 101] قصر كمية.
وقال جماعة: إن المراد بالقصر في قوله: { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } هو قصر الصلاة في السفر. قالوا: ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء: 101]. لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة.
وقد تقرر في الأصول، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله:
{ { ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء: 103] لجريانه على الغالب. قال في مراقي السعود: في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة:

أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

واستدل من قال: إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء: 101] فقد أمن الناس. قال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" .
فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر، وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أقر عمر على فهمه لذلك، وهو دليل قوي، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال: "صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم" ويؤيده حديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمان.
وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله: { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } قصر الكيفية في صلاة الخوف، كما قدمنا، والله تعالى أعلم، وهيئات صلاة الخوف كثيرة، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة، وتارة إلى غيرها، والصلاة قد تكون رباعية، وقد تكون ثلاثية، وقد تكون ثنائية ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم القتال، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالاً، وركباناً مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة، وهيئاتها، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء الله.
أما مالك بن أنس، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة في الثنائية، وركعتين في الرباعية والثلاثية، ثم تتم باقي الصلاة، وهو اثنتان في الرباعية، وواحدة في الثنائية والثلاثية، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائماً ينتظرهم، وهو مخير في قيامه بين القراءة، والدعاء، والسكوت إن كانت ثنائية، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية. وقيل ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالساً فيصلي بهم باقي الصلاة، وهو ركعة في الثنائية، والثلاثية، وركعتان في الرباعية، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه، وهو ركعة في الثنائية، وركعتان في الرباعية والثلاثية. فتحصل أن هذه الصورة، أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ويقفون في وجه العدو، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي، ويسلم ويتمون لأنفسهم.
قال ابن يونس: في هذه الصورة التي ذكرنا، وحديث القاسم أشبه بالقرآن، وإلى الأخذ به رجع مالك اهـ.
قال مقيده - عفا الله عنه - مراد ابن يونس، أن الحديث الذي رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، بالكيفية التي ذكرنا، هو الذي رجع إليه مالك، ورجحه أخيراً على ما رواه، أعني مالكاً، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف. الحديث، و الفرق بين رواية القاسم بن محمد، وبين رواية يزيد بن رومان، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في الموطأ، أنه يصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم.
قال ابن عبد البر مشيراً إلى الكيفية التي ذكرنا، وهي رواية القاسم بن محمد، عند مالك، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات: إن الإمام لا ينتظر المأموم، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في الموطأ موقوف على سهل، إلا أن له حكم الرفع. لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي. لأن سهلاً كان صغيراً في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجزم الطبري، وابن حبان، وابن السكن، وغيرهم بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم توفي وسهل المذكور ابن ثماني سنين، وزعم ابن حزم، أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك، ورواها في موطئه عن القاسم بن محمد، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف. قال أولاً: بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى، ثم تتم لأنفسها، ثم تسلم، ثم يصلي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الأمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه، كما بينا.
والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي، رضي الله عنه، لا سهل بن حثمة، كما قال بعضهم.
قال الحافظ في الفتح: ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير. لأن أبا أويس، روى هذا الحديث، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال: عن صالح بن خوات، عن أبيه، أخرجه ابن منده في معرفة الصحابة من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي، من طريق عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، وجزم النووي في تهذيبه بأنه ابوه خوات، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره، قلت: وسبقه إلى ذلك الغزالي، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير اهـ. محل الغرض منه بلفظه.
ولم يفرق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها، وأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالاً وركباناً إيماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما نص عليه تعالى بقوله:
{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239]. الآية.
وأما الشافعي -رحمه الله - فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعاً:
إحداها: هي التي ذكرنا آنفاً عند اشتداد الخوف والتحام القتال، حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال، فإنهم يصلون كما ذكرنا رجالاً وركباناً إلخ الهيئة.
الثانية: هي التي صلاها صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وهي أن يصلي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم: الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة، وصلاة بطن نخل هذه رواها جابر وأبو بكرة، فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلى مع النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وصلى بكل طائفة ركعتين.
وذكره البخاري مختصراً ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولاً ثم صلى ركعتين بالطائفة الأخرى.
وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني، وفي رواية بعضهم أنها الظهر، وفي رواية بعضهم أنها المغرب، وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة، مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم، واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل.
وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل.
واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما قد دل بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما على أنها هي صلاة ذات الرقاع، وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان، والله تعالى أعلم.
وقد دل بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان والله تعالى أعلم.
الهيئة الثالثة: من الهيئات التي اختارها الشافعي: صلاة عسفان، وكيفيتها كما قال جابر رضي الله عنه قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين، صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النَّبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم، ثم ركع النَّبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النَّبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً" هذا لفظ مسلم في صحيحه وأخرج نحوه النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي.
وقول ابن حجر في التقريب في الكنى: إنه تابعي الظاهر أنه سهو منهرحمه الله ، وإنما قلنا: إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان. لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح، وأنه مذهبه، و الصورة التي صحت عن الشافعي -رحمه الله - في مختصر المزني والأم أنه قال صلى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعاً إلا صفاً يليه أو بعض صف ينتظرون العدو، فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الصف الذي حرسهم، فإذا ركع ركع بهم جميعاً وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولاً إلا صفاً أو بعض صف يحرسه منهم، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلم بهم جميعاً معاً، وهذا نحو صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، قال: ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس انتهى بواسطة نقل النووي.
والظاهر أن الشافعي -رحمه الله - يرى أن الصورتين أعني: التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره، وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر.
وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاها أيضاً صلى الله عليه وسلم يوم بني سليم.
الرابعة: من الهيئات التي اختارها الشافعي -رحمه الله - هي: صلاة ذات الرقاع، والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان، وهي أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ويسلمون، ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية، ثم يسلم بهم، وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكاً رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمن صلى مع النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، وأخرجها الشيخان من طريقه فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو ما ذكرنا، وقد قدمنا أن مالكاً قال بهذه الكيفية أولاً ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلم بهم. وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختار الشافعي وهي ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: صلَّى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النَّبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة.
هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى. لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: ثم سلم فقام هؤلاء أي: الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا مخالف للروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما، وقال ابن حجر في الفتح: إنه لم يقف عليه في شيء من الطرق وأما الإمام أحمد -رحمه الله - فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم جائزة عنده، والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضاً، هي: أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ويذهبون إلى وجوه العدو. ثم تأتي الطائفة الخرى فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يصلون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلم بهم.
وأما الإمام أبو حنيفة -رحمه الله - فالمختار منها عنده، أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافراً، أو كانت صبحاً مثلاً، واثنتين إن كان مقيماً، ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى ويصلي بهم ما بقي من الصلاة ويسلم، وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو، وتجيء الطائفة الأولى، وتتم بقية صلاتها بلا قراءة. لأنهم لاحقون، ثم يذهبون إلى وجوه العدو، وتجيء الطائفة الأخرى فيتمون بقية صلاتهم بقراءة. لأنهم مسبوقون، واحتجوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية الصحيحين وغيرهما لحديث ابن عمر.
وقد قدمنا أيضاً من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلوا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى أتموا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين، ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعتهم الباقية. هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف.
وقال النووي في شرح المهذب: صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين. لأنها أعدل بين الطائفتين. ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء.
والثاني وهو قول أبي إسحاق، صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة. واعلم أن الإمام في الحضرية يصلي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين، وفي السفرية ركعة ركعة، ويصلي في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر.
وقال بعضهم: يصلي بالأولى في المغرب ركعة، واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النَّبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع.
قال البخاري في صحيحه: حدثني محمد بن العلاء، حدثنا أبو سامة، حدثنا بُرَيد بن عبد الله عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "بلغنا مخرج النَّبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النَّبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر" الحديث...، وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى، حين افتتاح خيبر.
وقد قال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع". الحديث: فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر، وقد قال البخاريرحمه الله : باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلاً وهي بعد خيبر. لأن أبا موسى جاء بعد خيبر إلخ. وإنما بينا هذا ليعلم به أنه لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على أنها غير مشروعة في الحضر، بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق، وأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا؛ لأنها لم تشرع في الحضر، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله:

ثم إلى محارب وثعلبه ذات الرقاع ناهزوا المضاربه
ولم يكن حرب وغورث جرى بهاله الذي لدعثور جرى
مع النَّبي وعلى المعتمد جرت لواحد بلا تعدد

والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعاً لابن سيد الناس ومن وافقه، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد، وهي أن تصلى كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه. ومن حديث حذيفة عند أبي داود، والنسائي، وهذه الكيفية هي التي صلاها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان: أيكم صلى صلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال حذيفة: أنا. وصلى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم، قال كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.
قال أبو داود: وكذا رواه عبيد الله بن عبد الله ومجاهد عن ابن عباس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن شقيق عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد الفقير وأبو موسى.
قال أبو داود: رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعاً عن جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين اهـ. منه بلفظه.
وقال القرطبي في تفسيره ما نصه: قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئاً. ويكون للإمام ركعتان، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب وفعله حذيفة بطبرستان، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك، وروي عن ابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا، وروى جابر بن عبد الله أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة.
قال أيضاً إسحاق: وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين:
الأول: أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعد ما أمنوا وزال الخوف، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن وهذا القول له وجه من النظر.
الوجه الثاني: أن قولهم في الحديث ولم يقضوا أي في علم من روى ذلك. لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر، ويدل له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف والله تعالى أعلم.
وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرآن، وصلاة بطن نخل، وصلاة عُسْفان، وصلاة ذات الرقاع، وصلاة ذي قرد. وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قَرَد بقوله:

فغزوة الغابة وهي ذو قَرَد خرج في إثر لقاحه وجد
وناشها سلمة بن الأكوع وهو يقول اليوم يوم الرضع
وفرض الهادي له سهمين لسبقه الخيل على الرجلين
واستنقذوا ابن حصن عشرا وقسم النَّبي فيهم جزرا

وقد جزم البخاري في صحيحه بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاث ليال، وأخرج نحو ذلك مسلم في صحيحه عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فرجعنا من الغزوة إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر، فما في الصحيح أثبت مما يذكره اهل السير مما يخالف ذلك، كقول ابن سعد: إنها كانت في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية، وكقول ابن إسحاق: إنها كانت في شعبان من سنة ست بعد غزوة لحيان بأيام.
ومال ابن حجر في فتح الباري إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد، وقرد بفتحتين في رواية الحديث وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أخر غير ما ذكرنا.
قال ابن القصار المالكي: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع.
وقال ابن العربي المالكي: روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة.
قال مقيده - عفا الله عنه - الذي يظهر والله تعالى أعلم، أن أفضل الكيفيات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدو.
تنبيهان
الأول آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة. لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم. إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف. لأنه عذر ظاهر.
الثاني: لا تختص صلاة الخوف بالنَّبي صلى الله عليه وسلم بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة، والاستدلال على خصوصها به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } [النساء: 102]ٍ الآية. استدلال ساقط. وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على رد مثله في قوله:
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [التوبة: 103] الآية. واشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم، إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بين لهم بفعلك. لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره، وشذ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي وإبراهيم بن عليه فقالوا: إن صلاة الخوف لم تشرع بعده صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } الآية. ورد عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كما رِأَيتموني أُصلِّي" وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم.
تنبيه: فإن قيل: قد قررتم ترجيح أن آية { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } [النساء: 101] في صلاة الخوف لا صلاة السفر، وإذن فمفهوم الشرط في قوله: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر.
فالجواب: أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون، فمنع صلاة الخوف في الحضر، واستدل بعضهم أيضاً لمنعها فيه بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم الخندق، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب، وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في سفر، وجمهور العلماء على أنها تصلى في الحضر أيضاً، وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضاً. لجريه على الغالب كما تقدم، أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبيناً حكمها.
كما روي عن مجاهد قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتوافقوا، فصلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة تامة بركوعها وسجودها، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت، وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض، وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلاً على حادثة واقعة، ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله:
{ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [النور: 33] ولا في قوله: { { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 28] لأن كلاً منهما نزل على حادثة واقعة:
فالأول: نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا، وهن يردن التحصن من ذلك.
والثاني: نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين، فنزل القرآن في كل منهما ناهياً عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها، وأشار إليه في المراقي بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة:

أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع

وأجابوا عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم الخندق: بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف، كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي، وبه تعلم عدم صحة قول من قال: إن غزوة ذات الرقاع التي صلى بها النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، كانت قبل الخندق، وأجابوا عن كونه لم يصلها إلا في السفر، بأن السفر بالنسبة إلى صلاة الخوف وصف طردي، وعلتها هي الخوف لا السفر، فمتى وجد الخوف وجد حكمها، كما هو ظاهر. نكتة: فإن قيل: لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها. لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث، فالجواب من وجهين.
الأول: هو ما تقدم من أن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم، وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر.
الثاني: هو ما حققه بعض الاصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلاً، إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصياً لا كلياً حتى ينافي فعلاً آخر، فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره، فيجوز أن يقع الفعل واجباً في وقت، وفي وقت آخر بخلافه، وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في مراقي السعود بقوله:

ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال

وما ذكره المحلى من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب نشر البنود في شرح البيت المتقدم آنفاً، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء: 101] معناه: ينالونكم بسوء فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية، كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - عن النَّبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم.
الفرع الأول: أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافاً لمن شذ وقال: لا قصر إلا في حج أو عمرة، ومن قال: لا قصر إلا في خوف، ومن قال: لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم، واختلف العلماء في الإتمام في السفر، هل يجوز أو لا؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب.
وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة -رحمه الله - وهو قول علي، وعمر، وابن عمر، ويروى عن ابن عباس وجابر، وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار، ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال: وقال حماد بن أبي سليمان: يعيد من صلى في السفر اربعاً اهـ. منه بواسطة نقل الشوكاني -رحمه الله - وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة، وابن عباس، وعمر - رضي الله عنهم - بأن الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، ودليل هؤلاء واضح، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر، كما يجوز الصوم والإفطار، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل؟ وبهذا قال عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة رضي الله عنهم.
قال النووي في شرح المهذب: وحكاه العبدري عن هؤلاء - يعني من ذكرنا - وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود، وهو مذهب أكثر العلماء ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة. وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة، واحتج أهل هذا القول بأمور.
الأول: قوله تعالى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } [النساء: 101] الآية. لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم.
الأمر الثاني: هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: في القصر في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم" الحديث - فكونه صدقة وتخفيفاً يدل على عدم اللزوم.
الأمر الثالث: هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني
"عن عائشة - رضي الله عنها - أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر هو صلى الله عليه وسلم وقصر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة، فأخبرته بذلك، فقال لها: أحسنت" .
قال النووي في شرح المهذب: هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد حسن أو صحيح، قال: وقال البيهقي في السنن الكبرى.
قال الدارقطني إسناده حسن، وقال في معرفة السنن والآثار هو إسناد صحيح. قال مقيده - عفا الله عنه - الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح. لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط. لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر:
الأولى: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام عام ست.
الثانية: عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية، وهي عام سبع.
الثالثة: عمرة الجعرانة بعد فتح مكة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة.
الرابعة: عمرته مع حجه في حجة الوداع، ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه أخبرني أحمد بن يحيى الصوفي. قال حدثنا أبو نعيم. قال: حدثنا العلاء بن زهير الأزدي. قال: حدثنا عبد الرحمن بن الأسود
"عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله: بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت. قال: أحسنت يا عائشة، وما عاب علي" اهـ.
الأمر الرابع: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها -
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" .
قال النووي في شرح المهذب: رواه الدارقطني، والبيهقي وغيرهما.
قال البيهقي: قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في التلخيص بلفظ يقصر بالياء، وفاعله ضمير النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتتم بتاءين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ حدثنا المحاملي حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب حدثنا أبو عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم. قال علي: هذا إسناد صحيح اهـ.
قال البيهقي: وله شاهد من حديث دلهم بن صالح، والمغيرة بن زياد، وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف.
الخامس: إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ولو كان القصر واجباً حتما لما جاز صلاة أربع خلف الإمام.
وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي: لمن اراد ذلك، وعن قول عمر في الحديث "تمام غير قصر" بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا: إن قوله تعالى: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } [النساء: 101] في صلاة الخوف كما قدمنا فلا دليل فيه لقصر الرباعية قالوا: ولو سلمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 233] لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158]. لأن السعي فرض عند الجمهور وعن قوله في الحديث: "صدقة تصدق الله بها عليكم" بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبولها في قوله: "فاقبلوا صدقته" والأمر يقتضي الوجوب فليس لناعدم قبولها مع قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقبلوها" ، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منهما، واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان، فلو كان عندها في ذلك رواية من النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقل عنها عروة أنها تأولت.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله - في زاد المعاد ما نصه: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك، فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال: تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النَّبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون. وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم، فإنها أتمت كما أتمّ عثمان، وكلاهما تأول تأويلاً. والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم اهـ. محل الغرض منه بلفظه.
قال مقيده - عفا الله عنه-: أما استبعاد مخالفة عائشة - رضي الله عنها - للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ولا شك أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد ألبتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة: فعلاً كان أو قولاً أو تقريراً، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدى الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في ذلك، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك والمثبت مقدم على النافي فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم.
والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح، وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي. وقال فيه: إنه يروي عن الثقاة ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به، مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في التقريب وغيره، وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمن بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها.
قال الدارقطني: وعبد الرحمن أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق، وذكر الطحاوي عن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه، وذكر صاحب الكمال أنه سمع منها، وذكر البخاري في تاريخه وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك، قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب. لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة وبعضهم يقول عن عبد الرحمن عن عائشة مردود ايضاً، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة.
قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين: قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة، ومن قال عن ابيه في هذا الحديث فقد أخطأ اهـ.
فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء، وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنة، وأن من اتم أعاد في الوقت. لأن الثابت أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام. للأدلة التي ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة. فقال مالك والشافعي وأحمد: هي أربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيراً معتدلاً، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدل من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى رِيم فقصر الصلاة في مسيره ذلك.
قال مالك: وذلك نحو من اربعة برد اهـ. وريم موضع. قال بعض شعراء المدينة:

فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم

وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك.
قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة اربعة برد، وبما قال مالك: إنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة.
قال مالك: وذلك اربعة برد وذلك احب ماتقصر فيه الصلاة إلي، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة كل هذه الآثار المذكورة في الموطأ، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما.
وقال البخاري -رحمه الله - في صحيحه: وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً اهـ. وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور نقله عنهم النووي، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام، وممن قال به أبو حنيفة، وهو قول عبد الله بن مسعود وسويد بن غفلة، والشعبي، والنخعي، والحسن بن صالح، والثوري وعن أبي حنيفة أيضاً يومان وأكثر الثالث، واحتج أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تسافر المراة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم" وبحديث "مسح المسافر على الخف ثلاثة أيام ولياليهن" ، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة ايام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقل مدة السفر بثلاثة أيام. لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته. لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه اهـ.
والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي. لأن المراد بالحديث الأول: أن المراة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة ايام إلا مع ذي محرم، وهذا لا يدل على تحديد أقل ما يسمى سفراً، ويدل له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة:
"لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم" .
وفي بعض الروايات الصحيحة "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة" وفي رواية لمسلم مسيرة يوم وفي رواية له ليلة، وفي رواية أبي داود لا تسافر بريداً، ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة، وكأن النَّبي صلى الله عليه وسلم
"سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً من غير محرم، فقال لا، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم فقال لا، ويوماً فقال لا" فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حداً للسفر اهـ. منه بلفظه.
فظهر من هذا: أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر باويه قد خالفه كما تقدم، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى.
وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضاً غير متجه، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيماً وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف مدة ثلاثة ايام، فإن مكثها مسافراً فذلك، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك، وذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر، وبما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة. لأنه قال: باب في كم يقصُر الصلاةَ وسمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة سفراً لأن قوله وسمى النَّبي إلخ بعد قوله في كم يقصر الصلاة يدل على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر.
وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله، وممن قال بهذا داود الظاهري قال عنه بعض أهل العلم: حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر، واحتج أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبما رواه مسلم في صحيحه عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين" ، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضاً في الصحيح عن جبير بن نفير قال: "خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على راس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين فقلت له. فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له. فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل" وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين. لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر، بل معناه أنه كان إذا سافر سفراً طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر. لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة، وكذلك حديث شرحبيل المذكور، فقوله إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو كان مسافراً إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره قاله النووي وغيره، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحاً فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي.
قال مقيده - عفا الله عنه - قال ابن حجر في تلخيص الحبير: وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً يقصر الصلاة" . ا.هـ وسكت عليه فإن كان صحيحاً فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهوراً أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين.
قال مقيده - عفا الله عنه - هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولاً، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد" . ضعيف. لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك وكذبه الثوري.
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ورواه عنه مالك في الموطأ بلاغاً وقد قدمناه.
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه. لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفراً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا؟ فإن كان صحيحاً كان نصاً قوياً في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة، وقصر أهل مكة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة، وبعضهم يقول: القصر في مزدلفة، ومنى، وعرفات من مناسك الحج والله تعالى أعلم.
قال مقيده - عفا الله عنه - أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول من قال: إن كل ما يسمى سفراً ولو قصيراً تقصر فيه الصلاة، لإطلاق اسفر في النصوص، ولحديثي مسلم المتقدمين، وحديث سعيد بن منصور، وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب، سمعت ابن عمر يقول: "إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر".
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول: "لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة".
قال ابن حجر في الفتح: إسناد كل منهما صحيح اهـ. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: يبتدئ المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفرن ولا في وسط البلد، وهذا هو قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور. على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله، وذكر ابن المنذر، عن الحارث بن أبي ربيعة، أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال: وروينا معناه عن عطاء، وسليمان بن موسى قال: وقال مجاهد: لا يقصر المسافر نهاراً حتى يدخل الليل، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار، وعن عطاء. أنه قال: إذا جاوز حيطان داره فله القصر.
قال النووي: فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النَّبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء، وموافقيه منابذ للسفر اهـ. منه، وهو ظاهر كما ترى.
الفرع الرابع: اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام، فذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد في إحدى الروايتين إلى أنها أربعة أيام، والشافعية يقولون: لا يحسب فيها يوم الدخول، ولا يوم الخروج، ومالك يقول: إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم.
وقال ابن القاسم: في العتبية يلغي يوم دخوله ولا يحسبه، والرواية المشهورة عن أحمد، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة.
وقال ابو حنيفة -رحمه الله -: هي نصف شهر، واحتج من قال بأنها أربعة أيام، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر" هذا لفظ مسلم، وفي رواية له عنه "المهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة" ، وفي رواية له عنه "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً" ، وأخرجه البخاري في المناقب، عن العلاء بن الحضرمي أيضاً بلفظ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر" اهـ. قالوا فأذن النَّبي صلى الله عليه وسلم، للمهاجرين في ثلاثة الأيام يدل على أن من أقامها في حكم المسافر، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام، وبما أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجراً أن يقيم ثلاثاً وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف، بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث. لأنها مظنة قضاء حوائجهم، وتهيئة أحوالهم للسفر، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة ايام، والاستدلال المذكور له وجه من النظر. لأنه يعتضد بالقياس. لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر، ومن أقام أربعة ايام، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه، واحتج الإمام أحمد، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر، وابن عباس - رضي الله عنهم - "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجة الوداع صبح رابعة، فأقام النَّبي صلى الله عليه وسلم، اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام" ، وقد أجمع على إقامتها، وهي إحدى وعشرون صلاة. لأنها أربعة أيام كاملة، وصلاة الصبح من الثامن" قال: فإذا أجمع أن يقيم، كما أقام النَّبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم.
وروى الأثرم، عن أحمد -رحمه الله - أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجة الوداع عشراً يقصر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه، وأن أنساً أراد مدة إقامته بمكة ومنى ومزدلفة.
قال مقيده - عفا الله عنه - وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه، ووضوح أنه الحق.
تنبيه
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضاً، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أقام النَّبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا". لأن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في غزوة الفتح، وحديث أنس، في حجة الوداع، وحديث ابن عباس، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان ناوياً الإقامة، والإقامة المجردة عن نية لا تقطع حكم السفر عند الجمهور، و الله تعالى أعلم.
واحتج أبو حنيفة -رحمه الله - لأنها نصف شهر، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
"اقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر، يقصر الصلاة" وضعف النووي في الخلاصة، رواية خمسة عشر.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وليس بجيد. لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي، من رواية عراك بن مالك، عن عبيد الله، عن ابن عباس كذلك، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر، عن رواية سبعة عشر، ورواية ثمانية عشر، ورواية تسعة عشر. لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقاً، وأرجح الروايات، وأكثرها وروداً في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق ابن راهويه وجمع البيهقي بين الروايات، بأن من قال: تسعة عشر، عد يوم الدخول، ويوم الخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة حذف أحدهما.
أما رواية خمسة عشر، فالظاهر فيها أن الراوي ظن، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها، يوم الدخول، ويوم الخروج، فصار الباقي خمسة عشر، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء:
أحدها: أنه يتم بعد أربعة أيام.
والثاني: بعد سبعة عشر يوما.ً
والثالث: ثمانية عشر.
والرابع: تسعة عشر.
والخامس: عشرين يوماً.
والسادس: يقصر أبداً حتى يجمع على الإقامة.
والسابع: للمحارب أن يقصر، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة ايام.
وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة، ويدل له قصر النَّبي صلى الله عليه وسلم مدة إقامته في مكة عام الفتح، كما ثبت في الصحيح وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال:
"أقام النَّبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" . وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم، وأعله الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلاً، وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال: "بضع عشرة" وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف.
قال البيهقي بعد إخراجه له: ولا أراه محفوظاً، وقد روي من وجه آخر عن جابر "بضع عشرة" اهـ. وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنساً كان يفعله. قال ابن حجر: ويحيى لم يسمع من أنس.
وقال النووي في شرح المهذب: قلت ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح. لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند اهـ. منه وعقده صاحب المراقي بقوله:

والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ

إلخ... واستدل أيضاً من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال: "غزوت مع النَّبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يُصلّي إلا ركعتين يقول: "يا أهل البلدة صلوا اربعاً فإنا سفر" فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فإنا سفر مع إقامته ثماني عشرة يدل دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عيه إسم المسافر، ويؤيده حديث "إنما الأعمال بالنيات" وهذا الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
قال ابن حجر: وإنما حسن الترمذي حديثه لشاهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق اهـ. وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقروناً بغيره.
وقال الترمذي في حديثه في السفر: حسن صحيح وقال: صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة.
وقال بعض أهل العلم: اختلط في كبره، وقد روى عنه شعبة، والثوري، وعبد الوراث، وخلق.
وقال الدارقطني: إنما فيه لين، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه، لكن يتقى منه ما كان بعد الاختلاط. اهـ. إلى غير ذلك من الأدلة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر، "وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة". رواه البيهقي بإسناد صحيح، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في صحيحه.
وقد روى أحمد في مسنده عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال: "كنت بأذربيجان لا أدري قال: أربعة اشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين" وأخرجه البيهقي.
وقال ابن حجر في التلخيص: إن إسناده صحيح اهـ. ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح.
الفرع الخامس: إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة. لأن الزوجة في حكم الوطن، وهذا هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد، وبه قال ابن عباس: وروي عن عثمان بن عفان، واحتج من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنديهما عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - "أنه صلى بأهل منى اربعاً وقال: يا ايها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة المقيم" .
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله - في زاد المعاد بعد أن ساق هذا الحديث: وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. يعني: في مخالفته النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى وأعل البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف.
قال ابن القيم: قال أبو البركات بن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما اهـ. منه بلفظه.
قال مقيده - عفا الله عنه - الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة، كما ثبت في صحيح مسلم أنه "صدقة تصدق الله بها" اهـ. وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدل لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أنها كانت تصلي أربعاً قال: فقلت لها: لو صليت ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي" وهذا أصرح شيء عنها في تعيين ما تأولت به والله أعلم.
الفرع السادس: لا يجوز للمسافر في معصية القصر. لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته، ويستدل لهذا بقوله تعالى:
{ { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } [المائدة: 3] الآية. فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم والضرورة اشد في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانف للإثم يدل على منعه به فيما دونه من باب أولى، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافاً للشافعي وقوم كما بيناه مراراً في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط، ويسميه الشافعي القياس في معنى الأصل، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة -رحمه الله - فقال: يقصر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص. ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه، وبه قال الثوري والأوزاعي: والقول الأول أظهر عندي والله أعلم.