التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
١٠
-فصلت

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ }.
الظاهر أن معنى قوله هنا في أربعة أيام: أي في تتمة أربعة أيام.
وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط، لأنه تعالى قال:
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] ثم قال في أربعة أيام، أي في تتمة أربعة أيام.
ثم قال:
{ { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما، ستة أيام.
وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال، لأن الله تعالى صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله في الفرقان:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59]. وقوله تعالى في السجدة { { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } [السجدة: 4] الآية. وقوله تعالى في ق. { { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق: 38] وقوله تعالى في الأعراف { { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
فلو لم يفسر قوله تعالى { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } بأن معناه في تتمة أربعة أيام، لكان المعنى أنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام، لأن قوله تعالى: { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّام } إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9]، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله تعالى: { { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] لكان المجموع ثمانية أيام.
وذلك لم يقل به أحد من المسلمين.
والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات، في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل: 15] الآية، وقوله تعالى: { وَبَارَكَ فِيهَا } أي أكثر فيها البركات، والبركة الخير، وقوله تعالى { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا }.
التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد.
والأقوات جمع قوت، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب:
أن آية فصلت هذه، أعني قوله تعالى: { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كقوله هنا
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] ثم رتب على ذلك بثم، قوله { { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } } [فصلت: 11] إلى قوله { { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض، كقوله تعالى في النازعات: { { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } [النازعات: 27] إلى قوله: { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات:30 ].
فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه: قوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29] الآية، هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة ثم التي هي للترتيب والانفصال.
وكذلك آية حم السجدة، تدل أيضاً على خلق الأرض قبل السماء، لأنه قال فيها:
{ { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] إلى أن قال { { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] الآية.
مع أن آية النازعات تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأنه قال فيها
{ { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } [النازعات: 27]، ثم قال: { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30].
اعلم أولاً أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولاً قبل السماء غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال:
{ { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30] ولم يقل خلقها ثم فسر دحوه إياها بقوله: { { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } [النازعات: 31] وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه.
وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء.
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29] الآية.
وقد مكثت زمناً طويلاً أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه: أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه أية من القرآن.
الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعاً قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقاً. ومنه قول زهير:

ولأنت تَفْري ما خلقت وبعض القوم يخلُقُ ثم لا يَفْري

والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير، أنه تعالى نص على ذلك في سورة فصلت. حيث قال: { { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَاَ } [فصلت: 10] ثم قال: { { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت: 11] الآية.
الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل، ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلاً.
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع، وإن لم يكن موجوداً بالفعل، قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ } [الأعراف: 11] الآية، فقوله { { خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف: 11] أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله
{ { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30] أي مع ذلك، فلفظة بعد، بمعنى مع.
ونظيره قوله تعالى:
{ { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 13] وعليه فلا إشكال في الآية.
ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة وبها قرأ مجاهد، والأرض مع ذلك دحاها.
وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة. لأنها مبينة على أن خلق السماء قبل الأرض وهو خلاف التحقيق.
منها أن ثم: بمعنى الواو.
ومنها: أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى:
{ { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البلد: 17] الآية.