التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٧
-فصلت

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون }.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَهَدَيْنَاهُمْ } المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان، والإرشاد، لا هدى التوفيق والاصطفاء.
والدليل على ذلك قوله تعالى بعده { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }، لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروه عليه، وتعوضوه منه.
وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } [التوبة: 23] فقوله في آية التوبة هذه: { { إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } [التوبة: 23] موافق في المعنى لقوله هنا: فاستحبوا العمى على الهدى.
ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [إبراهيم: 3] الآية.
فلفظة استحب في القرآن كثيراً ما تتعدى بعلى، لأنها في معنى اختار وآثر.
وقد قدمنا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى:
{ { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ } [هود: 24] الآية. أن العمى الكفر، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام، الذي هو البيان، والدلالة، والإرشاد، لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع، على الهدى الخاص الذي هو التوفيق، والاصطفاء، كقوله تعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90]
فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم.
ومن إطلاقه على معناه العام قوله تعالى:
{ { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإنسان: 3] بدليل قوله بعده { { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3]، لأنه لو كان هدى توفيق لما قال: { { وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3].
ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله تعالى:
{ { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90]. وقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد صلى الله عليه وسلم: 17]. وقوله: { { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } [الكهف: 17].
وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني: هو أنه تعالى: أثبت الهدى لنبينا صلى الله عليه وسلم في آية، وهي قوله تعالى:
{ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] ونفاه عنه في آية أخرى وهي قوله تعالى: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56].
فيعلم مما ذكرنا: أن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم، هو الهدى العام الذي هو البيان، والدلالة والإرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين المحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
والهدى المنفي عنه في آية:
{ { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56] هو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق، لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: { { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [المائدة: 41] الآية. وقوله تعالى: { { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } [النحل: 37] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وكذلك قوله تعالى:
{ { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ } [البقرة: 185] الآية، لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية. وخصوص المتقين في قوله تعالى: { { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام، والهدى الخاص بالمتقين، هو الهدى الخاص كما لا يخفى.
وقد بينا هذا في غير هذا الموضع، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ } الآية.
الفاء في قوله: فأخذتهم سببية، أي فاستحبوا العمى على الهدى، وبسبب ذلك، أخذتهم صاعقة العذاب الهون.
واعلم أن الله جل وعلا عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود، بعبارات مختلفة، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله: { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ } وقوله:
{ { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [فصلت: 13].
وعبر عنه أبضاً بالصاعقة في سورة الذاريات في قوله تعالى:
{ { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الذارايات: 43ـ44]. وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه، كقوله تعالى في سورة هود، في إهلاكه ثمود: { { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُوداً كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } [هود: 67ـ68] وقوله تعالى في الحجر: { { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } [الحجر: 82ـ83] وقوله تعالى في القمر: { { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ } [القمر: 31]. وقوله تعالى في العنكبوت { { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَة } [العنكبوت: 40] يعني به ثمودا المذكورين في قوله قبله: { { وَعَاداً وَثَمُوداً وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } [العنكبوت: 38] الآية.
وعبر عنه بالرجفة، في سورة الأعراف في قوله تعالى:
{ { فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } [الأعراف: 77ـ78] الآية.
وعبر عنه بالتدمير في سورة النمل، في قوله تعالى:
{ { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [النمل: 51].
وعبر عنه بالطاغية في الحاقة في قوله تعالى:
{ { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } [الحاقة: 5].
وعبر عنه بالدمدمة في الشمس في قوله تعالى:
{ { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [الشمس: 14].
وعبر عنه بالعذاب، في سورة الشعراء، في قوله تعالى:
{ { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } [الشعراء: 157ـ158] الآية.
ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم، والصيحة الصوت المزعج المهلك.
والصاعقة تطلق أيضاً على الصوت المزعج المهلك، وعلى النار المحرقة، وعليهما معاً، ولشدة عظم الصيحة وهو لها من فوقهم، رجفت بهم الأرض من تحتهم، أي تحركت حركة قوية، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة، وكون ذلك تدميراً واضح. وقيل لها طاغية، لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك.
والطغيان في لغة العرب: مجاوزة الحد.
ومنه قوله تعالى:
{ { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ } [الحاقة: 11] الآية. أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة.
واعلم أن التحقيق، أن المراد بالطاغية في قوله تعالى:
{ { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } [الحاقة: 5] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها، كما يوضحه قوله بعده: { { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [الحاقة: 6].
خلافاً لمن زعم أن الطاغية، مصدر كالعاقبة، والعافية، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم، أي بكفرهم، وتكذيبهم نبيهم، كقوله:
{ { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [الشمس: 11].
وخلافاً لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم، الذي انبعث فعقر الناقة، وأنهم أنهم أهلكوا بسبب فعله وهو عقره الناقة، وكل هذا خلاف التحقيق.
والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، والسياق يدل عليه واختاره غير واحد.
وأما قوله تعالى:
{ { فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ } [الشمس: 14] فإنه لا يخالف ما ذكرنا، لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه، بسبب ذنبهم.
قال الزمخشري في معنى دمدم: وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم.
وأما إطلاق العذاب عليه في سورة الشعراء فواضح، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ } من النعت بالمصدر، لأن الهون مصدر بمعنى الهوان، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف، أشار إليه في الخلاصة بقوله:

ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

وهو موجه بأحد أمرين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف. أي العذاب ذي الهون.
والثاني: أنه على سبيل المبالغة، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه، صار كأنه نفس الهوان، كما هو معروف في محله.
وقوله تعالى:
{ { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [فصلت: 17] كالتوكيد في المعنى لقوله { { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17] لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم، فالفاء في قوله: فأخذتهم سببية، والباء في قوله بما كانوا سببية، والعلم عند الله تعالى.